تونس.. قانون العفو عن الإرهاب
تزامن عملية تطاوين، جنوب تونس، مع تدخل أمني استباقي في منطقة المنيهلة، في ضواحي العاصمة، أفضى إلى إيقاف أكثر من 16 عنصرا إرهابيا في المنيهلة، وإعلان الجهات الأمنية أن صلة وثيقة تربط العمليتين، يكشف أن الفعل الإرهابي ما زال حاضرا، وأن تحويله إلى ماض يحتاج توحيد الجهود الأمنية والسياسية والفكرية والقانونية.
ما رشح من معلومات بعد العمليتين المتزامنتين، الأربعاء الماضي، أفاد بأن القوات الأمنية التونسية أوقفت أكثر من 37 جهاديا خططوا لهجمات “إرهابية وانتحارية”، لكن اللافت أن 12 إرهابيا من بين المقبوض عليهم، كانوا قد تمتعوا بالعفو التشريعي العام، وبعضهم حصل على تعويضات مالية من الدولة بعد الثورة، على خلفية سجنهم أثناء حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.
بعد المسافة بين تطاوين والمنيهلة، وعدد المقبوض عليهم، وما تداولته التحاليل من نجاح استخباري في إجهاض مجموعة عمليات كانت ستستهدف البلاد، لم يمنع المهتمين من الانتباه مرة أخرى إلى الصلة بين تجدد الفعل الإرهابي وما أنتجه العفو التشريعي العام، الذي رأى الحياة في تونس وفق مرسوم فبراير 2011. مرسوم قانوني لا يخلو من ضغوط سياسية مورست وقتذاك (أي فبراير 2011 بعد فترة قصيرة من سقوط نظام بن علي) على حكومة محمد الغنوشي الأولى.
جدير بالتذكير أن العفو التشريعي العام، ليس وليد لحظة ما بعد الثورة بل كان شعارا في قلب نضالات المعارضة التونسية زمن حكم زين العابدين بن علي. تجربة 18 أكتوبر 2005 (التي ضمت رموزا وأطرافا يسارية وإسلامية وحقوقية) اعتبرت “حرية التعبير والصحافة وحرية التنظّم الحزبي والجمعياتي وإطلاق سراح المساجين السياسيين وسنّ العفو التشريعي العام، مطالب تمثّل الحد الأدنى المتفق عليه والمعبر الضروري لوضع أسس الانتقال الديمقراطي”. لكن نسخة العفو التشريعي العام لما بعد الثورة عُدّت نسخة متسرّعة بدليل أنها صدرت بعد فترة وجيزة من سقوط النظام، ولم ينل القانون الوقت الكافي لدراسته ووضع معاييره ومحاذيره وضوابطه، وأيضا لأنّ القانون سرعان ما أبان عن نتائجه عندما بدأ التونسيون يتحسّسون نتائجه على “الميدان” بتبين أن قسما كبيرا من الفاعلين في “المنجز الإرهابي” كانوا ممن تمتعوا بعفو تشريعي قدّ على عجل. وزارة الداخلية التونسية، ذاتها، انتبهت إلى الباب الذي يشرعه القانون على الإرهاب، ومن خلال تصريحات العديد من قياداتها، فرفيق الشلي، كاتب الدولة المكلف بالشؤون الأمنية الأسبق، انتقد مرسوم العفو التشريعي العام لأنه سهّل التسريع في نسق الإرهـاب في تونس نظرا لقيام متورطين في قضايا إرهابية (ما عرف بخلية سليمـان خاصة) برفع أسلحتهم لقتل الأمنيين والمواطنين، والتحاق بعضهم ببؤر التوتر في سوريا وليبيا والعراق واليمن.
انتباه طائفة واسعة من السياسيين والحقوقيين والأمنيين في تونس إلى خطورة مرسوم العفو التشريعي العام، دفع العديد منهم إلى المطالبة بمراجعته أو تحيينه، باعتبار أن العديد من المستفيدين منه والمحكومين في العهد السابق على خلفية قضايا إرهابية عادوا إلى ممارسة الإرهاب، ورأت قراءات حقوقية أنه كان يتوجب حصر القانون على من كانوا يمارسون المعارضة السياسية السلمية ولم يثبت انتماؤهم إلى تيارات تكفيرية إرهابية أو ضلوعهم في قضايا حق عام.
ثابت أن مرسوم العفو التشريعي العام صدر في مرحلة كانت تونس تفتقد خلالها الحكومة الشرعية، وكانت في الوقت نفسه محكومة بتأثير التحركات الشعبية في الشارع، وهو ما جعل القانون المشار إليه يحظى بالمصادقة تحت ضغط الاعتصامات والوقفات الاحتجاجية، وتحت ضغط سياسي غير معلن (آنذاك)، إلا أن انتماء أغلب المنتفعين بالقانون (سواء بإطلاق سراحهم او بإعادتهم إلى العمل أو حتى بتمكينهم من التعويض المالي) إلى التيارات الإسلامية، أوحى وأكد الجهات التي تبنت المرسوم وسرّعت بتفعيله.
من جهته قال نور الدين البحيري، رئيس كتلة حركة النهضة بالبرلمان، إن “قانون العفـو التشـريعي العـام صدر في عهد حكومة محمد الغنوشي وليس في عهد الترويكا، وكل الأحزاب السياسية يمينا ويسارا ومختلف القوى النقابية والحقوقية والمدنية والاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسـان طالبت وقتـذاك بإصـدار قانون العفو التشريعي العام”. موقف حركة النهضة من القانون واعتباره مطلبا مجمعا عليه من كل القوى السياسيـة لم يكف لنسف العلاقة بين القانون (في صيغته المتسرعة التي صدر بهـا) والداعين إليه ثم مفاعيله البارزة راهنا.
ثابت أن الإرهاب لا ينمو ويترعرع فقط بتوفر الأفكار التكفيرية (وهي ضرورية لكنها غير كافية لوحدها) ولا بوجود العوامل الاجتماعية والاقتصادية القادحة له (وهي عوامل مساهمة وغير محددة)، ولا بالانحلال الأمني والحدود المنتهكة، إنما يمكن أيضا يستفيد من ترسانة قوانين وتشريعات تتيح إعفاء العناصر الإرهابية من المعاقبة والتتبع، وتسمح بإطلاق المساجين على خلفية قضايا إرهاب بمنطلقات “حقوقية” وسياسية واهية.
لذلك فإن محاربة الظاهرة يفترض أن تأخذ في الاعتبار كل عواملها، والتصدي للإرهاب يتحقق بمراعاة كامل أسبابه.
قانون العفو التشريعي العام في نسخته الصادرة في فبراير 2011، هو مرسوم متسرع صنعته الضغوط السياسية وهتافات الشوارع. وهذا لا يعني وجاهة مطلب المعارضة التونسية التي كانت تطالب منذ عقود بـ”عفو تشريعي عام” يسمح بحياة سياسية سليمة، لا أن ينتج إرهابيين ويعتبر الموقوفين على خلفية القضايا الإرهابية “مناضلين سياسيين”، ويمكّنهم من قوانين تعسّر متابعتهم ومساءلتهم ومعاقبتهم.
صحافي تونسي