كلاوديو رانييري.. مهندس كسب لقب الدوري الإنكليزي بفلسفته الخاصة

تمكن الإيطالي كلاوديو رانييري من تدوين اسمه على لائحة كبار المدربين بعد تتويج فريقه بلقب الدوري الإنكليزي لأول مرة في تاريخ النادي وتاريخه الشخصي كمدرب سلاحه في ذلك أسلوب خاص أودعه خبراء التدريب خزائن المكتبات.
الأحد 2016/05/08
رانييري .. الحلم تحقق

من يتقن فن العجائز ويتدبّر الأمور في أحلك اللحظات وأصعبها ويعتكف بنفسه في ركن يجهّز خلطته المثالية هو حتما شخص غريب عن الخيال ويصعب فك شيفرته. لسائل أن يسأل عن ماهية الحديث ومداره ولمتأنّ أن يخضع حاسة شمّه ونبراس فهمه، فيجادل حينا ويلتزم الصمت في أحيان كثيرة فاسحا المجال لطرح يكاد يأخذنا إلى عام القصص الجميلة والروايات. نعم هي رواية لا بل قصة ولعلها أقصوصة عن شيخ قارب السبعين من عمره، احترف مهنة الاشتغال في صمت، فطلق بيوت الحكمة وافترش العشب منصة للتألق ومعانقة الخيال فكان له الشرف في معانقة العالمية برفقة لاعبين طموحين يحدوهم أمل التغلب على محنهم وتجاوزها.

قصة اليوم بطلها الإيطالي كلاوديو رانييري عازف الأحلام وقاهر الكبار في الدوري الإنكليزي بدءا بأرسين فينغر مرورا بالأب الروحي لويس فان غال، فبيليغريني وانتهاء بيورغن كلوب، وهؤلاء بالتأكيد هم مديرو كبار الدوري الإنكليزي أرسنال ومانشستر يونايتد وتشيلسي ومانشستر سيتي. ولكن من يتقن فن اللعب مع الكبار عليه أن يخضع لقوانين اللعبة ونواميسها وأن يطالع جيدا سجل هؤلاء الحافل بالألقاب والكؤوس عله يخط لنفسه اسما، وهو ما كان مع المدير الفني لفريق ليستر سيتي الإنكليزي كلاوديو رانييري.

فلسفة الشيوخ

حاول رانييري أن يعود بآلة الزمن إلى الوراء إلى حقب سابقة سالكا فلسفته الخاصة ليقود ليستر إلى التتويج بلقب الدوري الإنكليزي الممتاز لأول مرة في تاريخه. واعتمد رانييري على معادلة بسيطة كانت سائدة بين الفرق الإنكليزية في ثمانينات القرن الماضي لكنها اختفت كليا من كرة القدم الحديثة.

ففي حقبة سيطر فيها برشلونة، الذي يحتفظ بالكرة بحماس كبير ويعتمد على التمريرات القصيرة بين اللاعبين بدلا من التمريرات الطويلة، على الكرة الأوروبية فإن ليستر أظهر أن اللعب المباشر ليس من بقايا العصور الماضية. ففي تقرير أصدرته لجنة تابعة للمركز الدولي للدراسات الرياضية في سويسرا أظهر أن ليستر لعب تمريرات أمامية أكثر من أيّ فريق آخر في البطولات الخمس الكبرى في أوروبا.
في ظل اعتماد منافسي ليستر على تشكيلة أكبر من اللاعبين وقدرة مالية عالية، فإنه على العكس تماما نجد فريق المدرب رانييري قد أظهر أن مصطلح (التدوير) أو سياسة المناوبة لم تعد تؤت أكلها في كرة القدم الحديثة

وصنف التقرير 6.9 بالمئة من تمريرات ليستر على أنها طويلة، وهي أكثر من أيّ فريق إنكليزي آخر لكنه جاء في المركز الثالث بعد ثنائي منتصف الترتيب في ألمانيا دارمشتاد (10.7 بالمئة) وأنجولشتاد (7.8 بالمئة). وهي خطة لم يعتمد عليها متصدرو 4 بطولات بارزة في أوروبا، حيث أن نسبة بايرن ميونيخ وباريس سان جيرمان وبرشلونة ويوفنتوس هي الأقل بين كل الفرق وتتراوح النسبة ما بين 1.1 و1.6 بالمئة. التمريرات الطويلة التي ارتبطت بمهارات أقلّ وفرق تعتمد على الجانب البدني، استخدمها ليستر بشكل دائم مستهدفا سرعة المهاجم جيمي فاردي الذي لعبت أهدافه الـ22 في البطولة دورا مهما في تتويج الفريق وحصده لجائزة أفضل لاعب إنكليزي.

وفي ظل اعتماد منافسي ليستر على تشكيلة أكبر من اللاعبين وقدرة مالية عالية، فإنه على العكس تماما فقد أظهر فريق المدرب رانييري أن مصطلح “التدوير” أو سياسة المناوبة لم تعد تؤت أكلها في كرة القدم الحديثة وليست شرطا للمنافسة على اللقب. حيث كان البعض يتندر على رانييري أثناء تدريبه تشيلسي في الماضي لأنه يدخل تعديلات كثيرة على تشكيلة الفريق في كلّ جولة، لكن تشكيلة ليستر تميزت بالثبات تقريبا، حيث أشرك المدرب 18 لاعبا فقط في 35 مباراة في التشكيلة الأساسية وأقل باثنين من توتنهام صاحب المركز الثاني، وأشرك أرسنال 23 لاعبا ومانشستر سيتي 22 لاعبا.

وقبل الجولة الماضية شارك 7 لاعبين في التشكيلة الأساسية لليستر في 32 مباراة أو أكثر مقارنة بأربعة لاعبين في توتنهام واثنين في أرسنال وواحد في فريقي مدينة مانشستر. ويمكن أن تكون المشاركة في البطولتين القاريتين سببا في التغييرات المتعددة، لكن بلا شك فإن الاستقرار كان الأساس لثبات مستوى ليستر. وكان أساس الفريق هو الحارس كاسبر شمايكل وثنائي الدفاع ويس مورجان وروبرت هوت، إضافة إلى لاعبي الوسط مارك ألبرايتون وداني درينكووتر وثنائي الهجوم الذي سجل 39 هدفا وهما فاردي والجزائري رياض محرز.

وفي موسم بارز رفض رانييري بثبات إدخال تعديلات على فريقه. وقال مورغان قائد ليستر، الذي ساعد الفريق على النجاة من الهبوط في الموسم الماضي تحت قيادة المدرب نايجل بيرسون بعد الفوز 7 مرات في آخر 9 مباريات، “لقد أدرك كيفية تفادي الهبوط وأراد المحافظة على المعادلة. وهو من أدخل تعديلات فقط في ما يخص الخطة”.

نجوم تحدثوا عن كلاوديو رانييري
مورغان قائد ليستر سيتي الإنكليزي: “هو من أدرك كيفية تفادي الهبوط وحافظ على المعادلة”.

ماسيميليانو أليغري مدرب يوفنتوس الإيطالي: “أسلوب المدرسة الإيطالية يغزو البريمير ليغ”.

آلان شيرار لاعب المنتخب الإنكليزي السابق: “ليستر حقق بقيادة رانييري أكبر إنجاز في كرة القدم”.

ماوريتسيو ساري مدرب نابولي الإيطالي: “الجميع يعرف أن المدربين الإيطاليين على مستوى عال جدا. إنه إنجاز استثنائي لمسيرة رائعة”.

لويس ميا لاعب فالنسيا السابق: “كان إيطاليا للغاية في أساليبه. الفريق صنعه خورخي فالدانو وجاء هو ليحقق النتائج”.

حرب مورينيو

تميزت علاقة المدربين كلاوديو رانييري وجوزيه مورينيو بالغرابة وكانت غير مفهومة من جانب المدرب البرتغالي تحديدا، حيث اندلعت شرارتها الأولى مع خلافة الأخير للمدرب الإيطالي في تشيلسي الإنكليزي صيف العام 2004 بعد تتويج مورينيو التاريخي بلقب دوري الأبطال مع بورتو، ليبدأ حربا كلامية ضد مدرب الفريق السابق دون سبب مفهوم، فكان تصريحه الأول “لقد أتيت إلى تشيلسي للفوز وتحقيق الألقاب، وعندما سألت لماذا تم تغيير المدرب قيل لي ببساطة لأننا نريد الفوز بالألقاب وهذا لم يكن ليحدث في وجود رانييري.. ليست مشكلتي أنهم كانوا يعتبرونه رمزا للخسارة في تشيلسي”.

“أملك العديد من البطولات في مسيرتي بينما هو قارب على عامه السبعين ولم يحقق شيئا سوى بطولة كأس بسيطة، إنه لا يملك عقلية الانتصارات. لقد تعلمت الإيطالية في خمس ساعات وأتواصل من خلالها مع الإعلام والمشجعين بينما هو عاش في إنكلترا خمس سنوات وبالكاد يقول صباح الخير ومساء الخير”، وهذه عيّنة بسيطة من العبارات العنيفة التي كان دائما البرتغالي المثير للجدل جوزيه مورينيو يوجهها للمدرب الإيطالي رانييري على مدار السنوات الماضية، والتي كانت مادة دسمة لوسائل الإعلام ولجماهير الفرق التي يدربها مورينيو أو خصوم الفرق التي يدربها رانييري للسخرية من المدرب الإيطالي كلما تراجعت نتائجه.

بعد انتهاء حقبة مورينيو الأولى مع تشيلسي عام 2007، التقى المدربان مرتين في إيطاليا، حيث كان مورينيو مدربا لإنتر فيما تولى رانييري تدريب يوفنتوس ثم روما، وبالتأكيد لم يضيع مورينيو فرصة السخرية من رانييري تلك المرة، خاصة مع وجود سبب مفهوم لذلك، فهو مدرب أحد المنافسين بشكل مباشر.

تصريح مورينيو الفعلي والمباشر ضد رانييري كان في العام 2008 مع بداية قدوم الأول لإيطاليا فقال “لقد فزت بالعديد من الألقاب في مسيرتي بينما هو قارب على عامه السبعين ولم يحقق سوى بطولة سوبر وكأس صغيرة، ومن الصعب جدا أن تغير عقليتك لتلعب من أجل الفوز دائما في مثل هذا العمر”.

وبعدها بعامين عندما كان رانييري مدربا لروما وخسر أمام مورينيو لقب كأس إيطاليا، وتردد أن رانييري طلب من لاعبيه مشاهدة فيلم “غلادياتور” الشهير لتحفيزهم فقال المدرب البرتغالي “لقد شاهدت 6 مباريات لروما لتحديد نقاط الضعف. قضيت ما يزيد عن 3 ساعات لتحليل كل مباراة باستخدام الكومبيوتر، بالتأكيد كان من الأسهل مشاهدة فيلم سينمائي ولكن رانييري نسي أن لاعبيه مجموعة من الأبطال وليسوا أطفالا، لو طلبت منهم مشاهدة فيلم سينمائي لظنوا أنّي مريض وطلبوا لي الطبيب”.

تصريحات مورينيو ضد رانييري لم تتوقّف أبدا عند هذا الحد، فكان في معظم المؤتمرات الصحافية بعد المباريات كلما حقق فريقه الفوز أو تعثر منافسه الذي يدربه رانييري قام بالسخرية من المدرب الإيطالي بشكل غير مباشر، ولكن ذلك لم يدفع أبدا رانييري للرد عليه.

عازف الأحلام وقاهر الكبار

رانييري رد وبشكل عملي وقويّ جدا حيث لم يكتف فقط بدخول التاريخ بتحقيق لقب تاريخي مع فريق ليستر الذي كان كل طموحه ينحصر في عدم الهبوط للدرجة الثانية وبمجموعة من اللاعبين المغمورين وأمام مجموعة من المنافسين تملك نجوما تعدت قيمتهم السـوقية ثمن فـريقه بأضعاف مضاعفة، ولكنه كان سببا مباشرا في إقالة الرجل البرتـغالي بعد نجاح ليستر في هـزيمة تـشيلسي خلال دـيسمبر 2015 بهدفـين مقابل هدف واحد وإبقاء تشيلسي في المركز السادس عشر مهددا بخطر الهبوط للدرجة الثانـية، ولعل مورينــيو لم يلاحظ ومنذ بداية الموسم بسبب النتائج السيئة لفريقه أن رانيـيري يتحدث دائما هذا الموسم لوسائل الإعلام بالـلغة الإنكليزية دون وجـود مـترجم.

ردّ رانييري باللقب التاريخي، وهذا ليس فقط أمام مورينيو ولكن أيضا لصديقه بيتر كينون المدير التنفيذي السابق لتشيلسي وصاحب فكرة استقدام المدرب البرتغالي عام 2004 لتدريب البلوز، والذي قدم وقتها تصريحا عدائياً ضد رانييري بقوله “منذ الأسبوع الأول لرانييري وأنا لا أراه الرجل المناسب لتدريب تشيلسي”.

فخر بالأبطال

حيا الإيطالي كلاوديو رانييري مدرب ليستر سيتي الإنكليزي “تصميم وذهنية” لاعبيه بعد نجاحهم في التتويج بلقب الدوري الإنكليزي الممتاز مخالفين التوقعات رأسا على عقب. وعاش ليستر سيتي فترة خيالية، فقبل 12 شهرا كان يكافح للهرب من الهبوط، ودخل الموسم خارج دائرة الترشيحات للمنافسة على اللقب لكنه قلب التوقّعات بعروض قوية ولاعبين أعطوا أفضل ما عندهم وفي مقدمتهم المهاجمان الدوليان المتألقان جيمي فاردي والجزائري رياض محرز، ومعهما الحارس الدنماركي كاسبر شمايكل والدولي الإنكليزي داني درينكووتر والفرنسي نغولو كانتي والجامايكي ويس مورغان والألماني روبرت هوث ومارك البرايتون وغيرهم.

ونقل الموقع الرسمي لليستر سيتي عن رانييري قوله “أنا فخور جدا. أنا سعيد جدا للاعبين، لرئيس النادي، لجميع العاملين في ليستر سيتي، جميع أنصارنا وسكان ليستر”. ويعتبر التتويج إنجازا شخصيا لرانييري (64 عاما) الذي لم يسبق له أن أحرز لقبا محليا كبيرا والذي لم يلق تعيينه مطلع الموسم الحالي حماسا كبيرا من البعض.

وكشف رانييري “لم أكن أتوقع حصول هذا الأمر عندما وصلت إلى هنا. أنا شخص براغماتي، كنت فقط أريد الفوز مباراة بعد مباراة ومساعدة لاعبي فريقي على تطوير مستوياتهم. لم يخطر ببالي إطلاقا أن نصل إلى ما وصلنا إليه”. وتابع “اللاعبون كانوا رائعين.. تركيزهم وتصميمهم وذهنيتهم الرائعة ساهمت في تحقيق المستحيل”. وأوضح “في كل مباراة كانوا يكافحون من أجل بعضهم البعض وكنت أعشق رؤية هذا الأمر. إنهم يستحقون أن يتوّجوا أبطالا”.

كاتب من تونس
22