جورج العقل النهضوي غير المستقيل
غياب جورج طرابيشي المثقف السوري العقلاني التنويري والنهضوي البارز الذي رحل عن زهاء مائتي كتاب جاء متزامناً مع غياب طاقم من أعلام الثقافة السورية المعاصرة خلال الأسابيع الاخيرة، بدءا من الرسام البارع نذير نبعة وليس انتهاء بالمخرج السينمائي المبدع نبيل المالح.
لا شك أن وفاة جورج طرابيشي المثقف الكبير والمتمرس بأكثر من نظام معرفي والمفكر الموسوعي الذي بدأ مترجماً لروائع الأدب الفرنسي قبل أن ينتقل إلى نقد الرواية العربية المعاصرة بنزوع فرويدي لا يخلو من غلوّ هنا وغلواء هناك. ومن هذا الموقع الانتقادي وفي طفرة بارعة بدأ مهمة الحفر في دراسة التراث العربي الإسلامي، وفحصه بعقلانية مسؤولة بعيدة عن المواربة.
مشروع جورج طرابيشي النقدي للتراث، بلغ ذروته في نقده لأعمال محمد عابد الجابري في “تقد العقل العربي”، وهو المشروع الذي استغرق إنجازه زهاء عقدين من الزمن. فقد تمكن بتحقيق تاريخي بارع، من تفنيد الفكرة المركزية التي اعتمدها الجابري ومفادها أن الفلسفة العربية الإسلامية والفكر العربي استمرّا في المغرب العربي بعد ابن رشد، وانتهيا في المشرق العربي مع أبي حامد الغزالي.
واعتمد هذا التفنيد على اكتشاف مرجعية الجابري المستمدة من أعمال المستشرق الفرنسي رينان الذي كان مصدر هذه الفكرة ومروّجها، وبالتالي البرهنة على أن بحث الفيلسوف المغربي هو بمعنى من المعاني إعادة إنتاج أنيقة وبارعة الأداء.
وفي كتاب طرابيشي “العمانية كإشكالية إسلاميّة إسلاميّة” الصادر في عام 2008 استبصار نقدي، بل نبوءة لافتة لا توضح بصدورها قبل نشوب الثورة السورية أن ما يحدث الآن من صدام مذهبي ليس صداما بين الإسلام والمسيحية، وإنما هو صدام داخلي، صدام يحاط بغلاف أيديولوجي في داخل الإسلام نفسه.
وفي تقديري أن حصيلة هذا الاستبصار النقدي تكمن في رأي طرابيشي من أن نبوغ النهضة العربية “مرهون بتحرير العقل عموما وبتحقيق ثورة لاهوتية خصوصا من خلال عملية نقد جذرية للتراث”. كما أن قوله في كتابه “المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي” أنه “إذا كانت الثورة تنتهي بأكل أبنائها فإن الظلامية تبدأ به. فهي لا تطيق وجود متنوّرين حتى في صفوف دعاتها”. هذا القول الذي يعود بتاريخه إلى عام 1991، ربما كان يجسد جوهر ما وصلت إليه المأساة السورية في وجه من وجوهها في الوقت الراهن.
والحال أن الفقيد الذي كان قد أسس لهذا الموقع الفكري في اختياراته المبكرة واللافتة للترجمة عن الفرنسية منذ أواسط الستينات، وأحد هذه الاختيارات اللافتة كتاب فرويد “موسى والتوحيد” الذي كتبه في أواخر حياته وطرح فيه برهانه على صحة نظرية مذهلة مفادها أن موسى كاهن فرعوني وأنه ليس يهوديا. وهذه النظرية صارت في وقت لاحق عماد بحث إدوارد سعيد الذي تطوّر إلى كتب والذي ألقاه في متحف فرويد بلندن قبل وفاته بفترة قصيرة، حول علاقة اليهودي بالآخر.
هذه الكلمات ليست بكائية ولا مرثية لجورج طرابيشي الذي عرفته عن كثب مديرا للإذاعة والتلفزيون السوري في منتصف الستينات، بينما عرفت عن قرب زوجته هنرييت عبودي كاتبة القصيرة البارعة، عندما كنت رئيسا لتحرير مجلة “Syrian life” التي كانت تصدر بالإنكليزية عن وزارة الإعلام بينما كانت ترأس تحرير الطبعة الفرنسية من المجلة.
هذه الكلمات ليست بكائية كما أنها ليست مرثية بأيّ حال، فوفاة جورج الذي رحل ممثلا لجيل متميز من المثقفين السوريين مازالت، بالنسبة إليّ خبرا صادما، خبرا يرفض بعناد أن يستقر أو يثبت في أعماق الوعي.. جورج العقل النهضوي المستنير، العقل غير المستقيل يظل أكبر من الكلمات.
ناقد من سوريا مقيم في لندن
ينشر المقال بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الشهرية الثقافية اللندنية