الإهمال يمحو ملامح الدرب الأحمر في القاهرة

القاهرة - دماء المماليك التي سالت أنهارا تحكي تاريخ هذا الشارع الشهير في قلب منطقة القاهرة القديمة، والذي اقترن اسمه بأشهر مذبحة حدثت في تاريخ مصر، وهي “مذبحة القلعة”.
شارع الدرب الأحمر الذي يوصف كواحد من أبرز الأحياء الشعبية في العاصمة المصرية كان في الأصل يسمى شارع “الدم الأحمر”، نسبة إلى دماء المماليك الذين قتلهم محمد علي باشا في المذبحة الشهيرة عام 1811 للتخلص من منافستهم له على حكم مصر، ثم تغير اسمه إلى “الدرب الأحمر”.
وتذكر كتب التاريخ أن دماء المماليك سالت في القلعة التي تقع على ربوة مرتفعة بغزارة، جعلتها تندفع إلى الشوارع المحيطة بالقلعة، وتلونها باللون الأحمر الذي ظل باقيا رغم أوامر محمد علي لجنوده بغسل الطرق.
الشارع الذي أنشئ عام 1330 في عهد السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، يبدأ من بوابة المتولي ويحيط به حي الجمالية من الشمال يقابله حي الخليفة جنوبا وغربا حي الموسكي وشرقا طريق النصر.
ويعبر الشارع عن تاريخ وثقافة عدة عصور بما يضمه من مساجد وأسبلة ذات طابع إسلامي، منها ما يعود إلى العصر الفاطمي والأيوبي والمملوكي والعثماني، ما جعله أكبر المتاحف الإسلامية المفتوحة.
ولا يمكن دخول الشارع إلا عن طريق باب زويلة، وهو أحد أبواب القاهرة القديمة وسمي هكذا نسبة إلى قبيلة زويلة من قبائل البربر التي جاءت مع جيش جوهر الصقلي، وفي الوقت الحاضر يطلقون عليه “بوابة المتولي” لأنهم يعتقدون أنه كان في ما مضى مقرا “للقطب المتولي”، أحد أهم الأولياء الصالحين في ذلك الوقت.
على الناحية اليمنى من باب زويلة نجد جامع الصالح طلائع بن رزيك الذي يقع على رأس تقاطع شارع الدرب الأحمر بقصبة رضوان باتجاه زاوية فرج ابن برقوق.
المفارقة أن الجامع الذي تعرض للكثير من أعمال الإصلاح والتجديد منذ عام 1911 لا يزال يحتفظ بحالته الرثة التي تعبر عنها حيطانه التي طمست معالمها، لدهنه بلون مختلف عن لون الحجارة التي بني بها، وفناؤه الذي تسكنه القطط بصحبة أنواع مختلفة من الحشرات والقوارض وسقفه الذي تغطيه العناكب، وأمام مدخله تراصت أحجاره الأثرية التي تآكلت بفعل الرطوبة والإهمال.
|
وتلفت الانتباه في شارع الدرب الأحمر المنازل المتراصة على جانبيه بشكل عشوائي، وقد نهشت جدرانها الرطوبة، لكنها تقود إلى جامع فخم يقف بتحد في الدرب، يطلق عليه جامع أحمد أبوحريبة، ويحتفظ بشكله الجميل وقوة بنائه اللذين لا يتفقان مع ثلاثة حوانيت متهالكة تقبع أسفل الجامع.
وفي الجانب الأيمن من الشارع نجد وقف خاير بك وبداخله يجلس الفحامون الذين لونت حرفتهم جدار الوقف بلون أسود داكن يبعث على الكآبة رغم “الباكية” البديعة التي تعلو المكان منذ إنشائها في عصر المماليك الجراكسة.
وفي الطريق، يمكن ملاحظة أثر مجهول الهوية لشدة تشوهه عرّفه عجوز من قاطني المكان بقوله إنه سبيل “يوسف أغا” ويعلوه كتّاب لم يعمل منذ 37 عاما، ويدخل في نطاق خطة التطوير التي أقرتها هيئة الآثار، فوضعت حوله سياجا هو العلامة الوحيدة على جهودها الترميمية.
نواصل عبور شارع الدرب الأحمر الذي لم يعد يحمل أي دلالة على لونه، فنلمح أشجارا يقوم الناس بنحتها وتصنيعها، وهي الأشجار الأثرية التي قيل إنها استؤصلت بطريق الخطأ من مسجد المؤيد شيخ، وفي الطريق ورش لإصلاح السيارات لا تتخيل أنها يمكن أن تنتهي بك إلى جامع الطنبغا بن عبدالله الماردانى الساقي الأمير علاء الدين، أحد مماليك الملك الناصر محمد بن قلاوون، الذي يعتبر من أهم المعالم الأثرية بتلك المنطقة.
جامع خليل أغا الحبشي بسكة المراداني كان المكان الذي قادنا إليه باب جامع الطنبغا، وقد حولته القطط إلى مأوى لها، لكنها تهرب منه حينما تشب النيران في الأخشاب المتراكمة بداخله.
مشنقة واستراحة قايتباي الموجودتان بسكة المراداني لا تقلان حالتيهما سوءا عن مسجد خليل أغا، حيث تظهر عليهما آثار الرطوبة والمياه الجوفية على الجدران، فضلا عن الصدأ الذي يأكل أعمدة المسجد الحديدية.
جامع “أبواليوسفين” أو “أبوالسيفين” قابلنا على الجانب الأيسر بعد خروجنا من سكة المراداني ومرورنا بسكة التبانة، وأهم ما يميزه هو قبته الأثرية الجميلة.
إهمال الناس تجلى بوضوح في الجانب الأيمن من التبانة الآيلة للسقوط على زاوية عارف باشا المبنية على مساحة لا تقل عن 500 متر.
تركنا الزاوية لنمر ببيت أثري جميل تسكنه الأشباح وخيوط العنكبوت هو “بيت الرزاز” الذي أخذته هيئة الآثار لترميمه. وبجانبه مدرسة خوند بركة أم السلطان شعبان التي اشتهرت بميلها إلى أعمال البر، وعندما توفيت دفنت بهذه المدرسة التي أنشئت عام 1368 وكانت أعدت لتكون مدرسة للشافعية والحنفية، وقيل للمذاهب الأربعة، وقد حفلت بمختلف الصناعات.
وعلى الجانب الأيمن بعد اجتياز المدرسة سبيل ومدفن عمر أغا الذي يفصله عنها حاجز زمني يتعدى المئتي عام وأمامه من الجانب الأيسر جامع إبراهيم أغا المستحفظان، الذي تم ترميمه وإعادة افتتاحه منذ أيام. وعلى نفس الجانب نجد مدرسة ومسجد خاير بك وهي تحت الترميم تعلوها أسيجة وأعمدة حديدية من جميع النواحي.
وبجوار المدرسة يوجد قصر شبه متداع هو قصر الأمير الحسامي، وبجانبه حوض إبراهيم أغا، الذي تنمو بداخله وعلى جدرانه نباتات ربانية لا دخل للبشر في إنمائها.
جدير بالذكر أن شارع الدرب الأحمر قدم لمصر العديد من رموز الثقافة والسياسة والفن وكرة القدم أبرزهم الأديب يوسف السباعي والشاعر والزعيم المصري محمود سامي البارودي والفنان محمود شكوكو إضافة إلى الكابتن محمود أبورجيلة، لاعب ومدرب نادي الزمالك المصري.