مها حسن: الروائي كعامل المنجم لا تكفيه حياة واحدة

تعد الكاتبة والروائية السورية مها حسن المقيمة في باريس، من الأصوات المجددة في السرد الروائي السوري والعربي، بفضل حسها ووعيها بالجماليات السردية، واشتغالها على ذلك بحرفية عالية، متسلحة بأدوات معرفية وثقافية واسعة نهلت من تراث قوميات متنوعة وانتماءات دموية مختلفة وثقافات وعوالم متعددة، ما مكنها من تشكيل نسيج كتابة مليء بالحكايات المحبوكة بمقدرة عالية. وهي -كما يرى النقاد- ممن أضفن إلى جنس الرواية العربية مضامين ذات خصوصية أنثوية قلما غامر في طرقها الروائيون الذكور، رغم تأكيدها لنا أنها ليست مع مصطلحات تفصل الإبداع وتصنّفه وفق صاحبه.
ولدت مها حسن بحلب في شهر ديسمبر عام 1966 في أسرة كردية بسيطة. ولما أنهت المراحل الدراسية الأساسية التحقت بجامعة حلب لدراسة الحقوق، فحصلت على الإجازة فيها.
وفي منتصف عقد التسعينات، حين كانت في التاسعة والعشرين من عمرها، أنهت كتابة روايتها الأولى “اللامتناهي – سيرة الآخر”، لتنشر بعد ذلك سبع روايات، هي: “لوحة الغلاف: جدران الخيبة أعلى” (2002)، “تراتيل العدم” (2009)، “حبل سري” (2010)، “بنات البراري” (2011)، “طبول الحب” (2012)، و”الراويات” (2014)، وأخيرا “نفق الوجود” التي صدرت العام الماضي في لبنان. وقد وصلت مها حسن إلى القائمة الطويلة لـ”جائزة بوكر” العربية مرتين، 2011 و2015، بروايتيها “حبل سري” و”الراويات”.
خلقت لأروي
نساء كرديات وعربيات وتركمانيات، منحن الكاتبة الانفتاح على الآخر، وعلى السرد، لهذا تتسم كتاباتها بالتجريبية
تبدأ “حسن” روايتها الأخيرة “الراويات” بجملة “خلقت لأروي” واصفة نفسها بـ”الآلة الكاتبة”، وكأن الكتابة حياة أخرى تعيشها. وتعلق على ذلك بالقول: الكتابة هي الحياة الحقيقية بالنسبة إليّ. حين أقيّم نهاري وأحصي أعمالي وأنشطتي، أجد أنني أمضي أغلب ساعاتي بالعمل في القراءة أو الكتابة.
نسأل ضيفتنا إن كانت قد كتبت روايتها التي تريد، بعد ثماني روايات صدرت لها حتى اليوم، فتقول: لماذا يجب أن تكون هناك رواية واحدة تعبّر عن حلمي وتوقي الروائي؟ هذا المفهوم “الرواية التي أريد”، فيه حصر وتضييق على الإبداع. وقد ورد في مقدمة روايتي “الراويات”: إن حياة واحدة لا تكفي الروائي. وقارنت حياة الروائي بعمال المناجم قائلة: حياة الروائي، كعمال المناجم، يشتغل لسنوات، ويموت قبل أن يكمل مشروعه.
الرواية والحرية
|
عن مدى إمكانية انفتاحها على أجناس أدبية أخرى وطرق أبواب تعبير مغايرة، بعد أن كتبت القصة إلى جانب كتابتها الرواية. تقول حسن: أنا في الوقت الحالي، منشغلة أكثر بهاجسي الروائي، فالرواية في حد ذاتها لم تعد جنسا أدبيا منغلقا، ومن الممكن ضمن الرواية أن نبتكر أساليب جديدة، وما ذكره إدوار الخراط حول الكتابة عبر النوعية، لا يزال قابلا للتفعيل، أنا مع الذهاب إلى توليد أجناس فرعية داخل الرواية ذاتها. أكثر من الذهاب إلى أجناس أخرى، مثلا، أحلم ذات يوم بكتابة تدمج تقنية السينما بالرواية.
حول كتابتها عن أمكنة وآلام وأوجاع بلدها وهي بعيدة عنه، تتساءل الكاتبة: من قال إنني بعيدة؟ وتضيف: سبق أن كتبت مقالا عنونته بـ”خيانة المكان”، حيث أعيش جسديا في باريس، ونفسيا في سوريا. حين أنام، أجدني دائما في سوريا. إن وعيي لا يزال في سوريا. أتحدث يوميا عبر الهاتف مع سوريا، ألتقي بالسوريين في عدة مدن من العالم، وسوريا معي، ومقياس العلاقة مع المكان ليس فقط عبر التواجد الفيزيائي.
وعن مدى أثر تواجدها في بلد غربي كفرنسا على أعمالها الروائية، تشير ضيفتنا إلى أن الحرية ليست كلمة عادية، بل هي مفهوم دقيق للعيش، وهي تحظى بالحرية في هذا المكان، ما يساعدها على التفعيل اليومي للكثير من الحالات الداخلية والأفكار والمشاعر، والمـــــراجعة اليومية للذات، للتاريخ، للعلاقة مع الكتابة، وللمساءلة. وكل هذه التفاصيل، يتيح المكان الفرنسي محاكاتها ونبشها؛ فالحرية التي تنعم بها الكاتبة، تخلّص كتابتها وتنقّيها وتجعلها طازجة خارجة من حاسوبها إلى القارئ، دون الغربلة الرقابية، التي يمارسها الكاتب نفسه على نفسه في كثير من الأحيان.
وبسؤالها عن معنى قولها في روايتها “حبل سري” إن “المستقبل للرواية المشرقية”، توضح مها حسن قائلة: كانت صوفي (بطلة الرواية) متيقنة إلى درجة الإيمان المطلق، بأن مستقبل الرواية سوف يقفز من الشرق، فهاهو كويللو، الذي تحبه وتغار منه أيضا، قد وضع كل سحره الروائي، في أرض مصر، وقطع طريق الرواية، ذاهبا إلى الأهرامات.
الحرية التي تنعم بها الكاتبة، تخلص كتابتها وتنقّيها وتجعلها طازجة خارجة من حاسوبها إلى القارئ دون غربلة رقابية
أبناء الذاكرة
وننتقل مع حسن إلى ذكريات الطفولة لتحدثنا عن الجدة والعمة الكرديتين والأم المولودة من أم عربية وأب كردي، وعن الأثر الذي تركنه في نفسها، تقول ضيفتنا: إذا أضفنا إلى صورة المرأة الحكواتية الشفهية، التي منح أغلبنا، نحن كتّاب المنطقة هذه النماذج في طفولتنا، فإن نوعية الحكايات هنا هي التفصيل الجديد.
وتتابع حسن حديثها عن البيئات الثقافية التي ولدت وعاشت فيها، فهي التي عاشت بين ثقافات ثلاث؛ العربية والفرنسية اللتين تكتب بهما، والكردية التي تنتمي إليها، وعن مدى تأثير هذه الثقافات على تجربتها الأدبية. تقول: سبق لي أن كتبت عن تعدد الهويات المثري.
|
وعما إذا كان لقوميتها الكردية تأثير على مواقفها من مجريات الأوضاع في سوريا كما يشير البعض. تؤكد الكاتبة أن ذلك مجانب للحقيقة. وتوضح: الكاتب ينتمي دون جدال إلى الأطراف الضعيفة. لهذا ربما نكتب، لنكون صوت الهامش ولنقف مع المظلومين.
تعتبر مها حسن أن تاريخ المرأة لا يزال يمثل “التابو الكبير”، وأنه إحدى حالات إلهامها، وتجزم الكاتبة بمدى تمكنها من اختراق هذا “التابو”، لكنها تؤكد على محاولتها الدائمة في سبيل ذلك.
وترى حسن أن الكثير من الأصوات النسائية تفوقت على الكتابة الروائية لدى الرجل في بعض الزوايا والخصوصيات، وهو ما دعانا إلى سؤالها عن موقفها من مصطلح “الكتابة النسائية” أو “الأدب النسائي”، لتشير إلى أن هناك فعلا أسماء كاتبات تفوقن في أعمالهن على كتابة الرجل، مؤكدة أنها ليست أبدا مع مصطلحات تفصل الإبداع وتصنّفه وفق صاحبه.
وعن رأيها في تصنيف النقاد بأن رواياتها “نسوية بامتياز”، تقول ضيفتنا: لا أعرف ما المقصود بأن رواياتي “نسوية”، ولا يمكنني الاعتراض، هي وجهات نظر قابلة دائما لتأويلات عديدة.
وحول رأيها في الجوائز الأدبية، ومدى إسهامها في صناعة الروائي وتطوير تجربته وترويج اسمه، تبين الكاتبة أنه لا يمكن للجوائز صناعة مبدع، لكنها تروّج للكاتب دون شك، وتساعد على إيصال كتابته إلى شرائح أوسع من القراء.
الكتابة والثورة
مع تقدم العمر تصبح الحاجة إلى ساعات الكتابة أكثر إلحاحا، كأن أحدنا يخاف أن يباغته الموت دون أن ينهي ما يريد
وننتقل مع محاورتنا للحديث عن الثورة السورية، وهي التي رأت في روايتها “طبول الحب” أنها وثّقت الثورة بنبلها وإنسانيتها، قبل أن تحوّل بجهود السياسيين، سواء من النظام، أو من قوى إقليمية أو من أطراف معارضة، أو من جهات عالمية، إلى عمل مسلح ثم إلى فوضى يصعب فهمها.
تضيف: سيكون هناك جيل متعدد الانتماءات، سيتعلم الانفتاح من الأرض الجديدة التي يعيش عليها، من اللغة الجديدة، سيكون جيلا خارقا مؤمنا بالعدالة، جيل كهذا لن يضيّع سوريا. هذا ما أشعر به اليوم وأنا أرى مئات الأطفال يذهبون إلى عالم أكثر أمانا لهم. ذات يوم، سيعودون، سيعودون أقوى وأكثر وعيا وفي ظروف أفضل من آبائهم.
|
وعن اعتقادها هل أنه من المبكر كتابة رواية عما يحدث في سوريا، تقول محدثتنا: لا أتفق مع الرأي العام المؤثّم للكتابة أثناء الحدث، وقد سبق لي أن شاركت بورقة عمل في جامعة بروكسل، حول “تجريم الكتابة” أثناء الحدث.
ربما انعكاس المنفى والشتات على نتاج مها الحسن الأدبي، وتؤكد هي نفسها ذلك، لكنها تلفت إلى أن انعكاس المنفى كان بطريقة إيجابية، أما لفظة الشتات فهي لا تؤمن بها، خاصة بعد الهجرة السورية الهائلة.
وبالانتقال إلى الحديث عن وقع رواياتها في بلدها، وفي الوطن العربي تؤكد حسن أن ما حدث لها هو أنها عرفت في البلاد العربية قبل سوريا، في المغرب أولا، ثم في مصر.