أيام مع اللواء عمر الحريري
بوفاة اللواء عمر الحريري، طوت العسكرية الليبية صفحة ناصعة من صفحاتها، فالرجل كان رمزا من رموز النزاهة والوطنية، عرفته عن قرب عندما قمت في أكثر من مناسبة بزيارة جبهات القتال أثناء حرب التحرير من نير الدكتاتورية، كان أبا وأخا للثوار والمقاتلين في سبيل الحرية، حدّثني عن أحلامه وآماله في أن يرى ليبيا الدولة الديمقراطية الحديثة الموحّدة التي يرنو إليها الليبيون، وعن صورة الوطن الجميل الذي يحلم به.
كان عمر الحريري قد التحق بثورة فبراير منذ اندلاع أحداثها الأولى، ثم تولى الملف العسكري بالمجلس الانتقالي الذي كان يحظى بعضويته، ومما رواه لي في أيام الثورة أن ضباط الجيش الليبي بالمنطقة الشرقية هم من فتحوا أبواب المعسكرات ومخازن السلاح للثوار وقاموا بتدريبهم على القتال، وأن الجيش الليبي في المنطقة الشرقية أعطى نموذجا متقدما لروح الانتماء الوطني التي تميّز بها. بعد ذلك، كان لنا لقاء آخر في الزنتان، غرب البلاد، حيث وللتاريخ لابدّ من الإشارة إلى أن اللواء الحريري كان أول قيادي من قيادات الثورة بالمنطقة الشرقية ربط جسور التواصل مع ثوار المنطقة الغربية، وزار مدينة الزنتان التي بادرت بالانتفاض ضد الدكتاتورية في المنطقة الغربية لتلعب بعد ذلك دورا حاسما في تحرير ليبيا والإطاحة بحقبة الاستبداد السياسي.
في يوليو 2011 اجتمعنا مرّة أخرى بالزنتان، وحدثني عن بوادر النصر من جهة، وعن تخوفه من أن يتم تجيير هذا النصر لخدمة أطراف معادية لمصلحة الشعب الليبي قد تكون داخلية أو خارجية من جهة أخرى، فالمهم بالنسبة للثوار الحقيقيين ليس الانتقال السياسي في حدّ ذاته، وإنما أن يكون انتقالا سلسا، تليه مصالحة شاملة، وتوحيد لجهود الجميع بما يخدم البلاد والعباد.
أذكر أنني سألته عن موقفه من انقلاب سبتمبر 1969 الذي كان أحد الفاعلين الأساسيين فيه، فقال لي ما معناه أن الذين قادوا الانقلاب كانوا 12 ضابطا شابا مدفوعين بحماسة الشباب وبالمشروع القومي العروبي الناصري، ولكنه اكتشف بعد ذلك حجم الخطأ الذي ساهم في ارتكابه، حيث انقلب الحكم إلى كابوس عندما انفرد القذافي بالحكم، ومارس كل أنواع الاستبداد، وأطاح بالمسار الدستوري الذي عرفته ليبيا في عهد الملكية.
التحق الحريري عام 1964 بالكلية العسكرية وتخرج منها عام 1966 بدرجة ممتاز برتبة ملازم في الجيش الليبي، وقد انضم إلى ما سمّي آنذاك تنظيم الضباط الأحرار يوم 21 ديسمبر 1964 واستمر عضوا فعالا في التنظيم إلى حين تنفيذ انقلاب الفاتح من سبتمبر، وقد أوكلت إليه مهمة اعتقال ملك البلاد، إلا أنه صادف أن الملك كان موجودا وقتها في اليونان، فتم اعتقال ولي العهد ثم تسارعت الأحداث في ما بعد، حيث سافر الحريري إلى خارج البلاد في دورة للأركان وبعد عودته عين آمرا للواء التاسع المدرع ولمنطقة طبرق العسكرية، كما عين في يناير 1972 محافظا لمنطقة الجبل الأخضر، ثم وفي أبريل 1974 تولى مهمة أمين لمجلس الوزراء.
ومما يحسب للمرحوم أنه كان من أول من أشعلوا الضوء الأحمر في وجه القذافي، عندما اشترك عام 1975 في الحركة التي سميت حركة العُمريْن؛ وهما عمر الحريري وعمر المحيشي ولم يكتب لها النجاح حيث هرب المحيشي إلى خارج البلاد وأودع الحريري ورفاقه السجن. عاش الحريري تجربة حياتية ثرية، سيطر عليها الميل إلى العدل والكرامة والقيم الإنسانية النبيلة، ولكنه أكد في أكثر من مناسبة أنه لم يشعر بطعم الحرية إلا بعد 17 فبراير 2011، وقد حدثني بذلك، كما عبّر لي في آخر لقاء بيننا أوائل العام الجاري، عن خيبة أمله في الكثير من المسائل، فهو من دعاة بناء الدولة، ومن دعاة تشكيل المؤسسات السيادية، ومن المدافعين عن مبدأ بناء جيش قوي قادر على حماية البلاد من أي مخاطر داخلية وخارجية، كما أنه من المنادين بالمصالحة الشاملة التي لا تستثني سوى من تلوثت أياديهم بدماء الليبيين، ولكنه مع ذلك، قال لي إن الليبيين قد يختلفون في كل شيء، ولكن لا خلاف حول كرامة الوطن، وأن أي تهديد لهذه الكرامة سيوحد بين الليبيين، ليبنوا وطنهم، وينتصروا لقيم الحرية والمدنية والديمقراطية.
رحم الله عمر الحريري، وغفر له ما تقدم وما تأخر من ذنبه، والأكيد أن الشعب الليبي لن ينسى أفضال رجاله الخلّص سواء كانوا أحياء أو في دار الحق.
كاتب ليبي