أزمة النفايات وإعادة إنتاج المحاصصة السياسية في لبنان
لم تنجح حملة “طلعت ريحتكم” التي كانت قد اتخذت من أزمة النفايات عنوانا لتحركها في الإفلات من مصائد التطييف والتسييس، وغياب الرؤية الواضحة والعملية. وتحوّل العنوان المطلبي المشروع والمحق إلى مطلب إسقاط النظام وإسقاط الحكومة، في حين أن الكلام كان يدور قبل ذلك حول إسقاط كل الطبقة السياسية.
الشعارات التي رفعت ضد السياسيين استثنت قائد حزب الله السيد حسن نصرالله، ما سمح بإخراجها من السياق المطلبي العام والمحق والشعبي وإدراجها في الصراع السياسي الذي ينحاز لطرف ضد الطرف الآخر.
بعد ذلك تم تفجير الحراك إثر دخول من اصطلح على تسميتهم بالمندسين، وافتعالهم أعمال شغب، وتدمير وإحراق واصطدام مع القوى الأمنية المكلفة بحماية السراي الحكومي. وانقلب المشهد تماما فبعد أن كان التعاطف العام يوم السبت الماضي لصالح المتظاهرين، وكان هناك مزاج عام يميل لإدانة تصرفات القوى الأمنية واعتبار عنفها غير مبرر، انقلبت الآية ليل الأحد حيث لم يعد المتظاهرون يشكلون جسما واحدا بل انقسموا إلى كتل متمايزة ومتناقضة. وبدا وكأن هناك مجموعة أصلية، هي مجموعة “طلعت ريحتكم” تطالب بالانسحاب وعدم الاصطدام مع القوى الأمنية، ومجموعة جديدة ترفع شعار “بدنا نحاسبكم” وتصر على البقاء في الشارع، ومحاولة اقتحام السراي الحكومي.
وأشارت مصادر عديدة إلى أن هؤلاء المندسين بنتسبون مباشرة أو يوالون فريق الثامن من آذار، خاصة وقد امتلأت الساحة بجماعة حركة أمل وسرايا المقاومة وبعض العونيين، إضافة إلى جماعة رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي.
وأصبحت ساحة الاحتجاج الشعبي مسرحا للصراع بين القوى السياسية، حيث يسعى كل طرف إلى استثمار اللحظة وجرها إلى التطابق مع شبكة مصالحه.
ظهرت القوى التي كانت تركب موجة الحراك الشعبي للتصويب على الحكومة في هيئة محرجة، حيث بدا أن المطلوب لم يكن إسقاط الحكومة بالفعل، بل خلق أزمة تضع الحكومة في مواجهة الناس. وتبرئ القوى المعطلة الفعلية من تهمة شل البلد وشل الحكومة. وظهر جليا أن هدف التيار العوني وحزب الله من التصويب على الحكومة، هو تحميلها مسؤولية كل الأزمات المتفاقمة في البلد وخاصة أزمة النفايات. وبشكل أدق كان المطلوب تحميل رئيس الحكومة تمام سلام وما يمثله هذه المسؤولية.
وكان من المستغرب لجوء وزراء التيار العوني إلى دعم مطالب المتظاهرين والإعلان عن تأييدها، ومحاولة الوزير أبوصعب النزول إلى الشارع وجر الحراك الشعبي إلى الإقامة في حالة عونية، وكأن مطلب إسقاط الحكومة هو مطلب عوني، وأن المتظاهرين ليسوا سوى عونيين رغما عنهم.
رئيس الحكومة تمام سلام سعى إلى إعادة التصويب على المشكلة الأساسية وهي أزمة النفايات. وقام بتقديم موعد فض العروض إلى نهار الإثنين، وكانت النتيجة فوز شركات محسوبة على جهات سياسية بكل المناقصات، وبأسعار أعلى من تلك التي كانت تقبضها شركة سوكلين عن كل طن.
رئيس المجلس النيابي أبدى عدم قبوله للأسعار وطالب بتعديلها أو إلغاء المناقصات وكذلك اعتبر النائب وليد جنبلاط أن أسعار المناقصات خيالية. فيما دعا مسؤولو حملة “طلعت ريحتكم” إلى تجديد التظاهر.
ودعا رئيس الحكومة إلى تقديم موعد الجلسة التي كانت مقررة الخميس إلى الثلاثاء لبحث المواضيع الملحة والتوصل إلى حلول لها تحت طائلة الاستقالة التي لا يبدو أن أحدا من الأطراف السياسية يستطيع تحمل تبعاتها، وخاصة بعد أن أسفرت الصراعات بين القوى السياسية على خلفية الحراك الشعبي أن الأمور محسوبة ضمن شبكة معقدة من التوازنات التي لا تسمح بتجاوز حدود معينة. هكذا يكون ما جرى قد حقق لكل طرف ما هدفا سياسيا سجله في مرمى خصومه.
الخلاف الواضح بين رئيس المجلس النيابي نبيه بري والجنرال عون بما قد يفسر لماذا عمد الرئيس نبيه بري إلى السماح لمجموعة محسوبة عليه، بالولوج في قلب الحشود المتظاهرة، وجر الأمور إلى حالة الشغب التي تابع الجميع تفاصيلها على شاشات التلفزيونات.
وقرأ الرئيس بري لحظة عوننة التحرك فعمد بدهائه السياسي إلى جره إلى حالة يصبح فيها شغبا خالصا غير مشروع، ما يعمق أزمة التيار البرتقالي ويضعه في مواجهة الشرعية والجيش، ويساهم في تداعي شرعيته وإضعافها.
قائد الجيش العماد قهوجي استفاد من الأزمة كذلك، وظهر في ثوب ضامن الأمن والنظام، وحامي الشرعية، فالأمور لم تحسم حين بدأ التحرك يخرج عن السيطرة إلا حين تدخل الجيش. هكذا فإن النجاح في ضبط الأمور صب في نهاية المطاف في رصيد قائد الجيش الذي كان قد تعرض لانتقادات قاسية وهجوم شرس من قبل الجنرال عون وعموم التيار البرتقالي.
تيار المستقبل الذي استكمل جلسات الحوار مع حزب الله بعد كل هذه الحوادث، نجح في إعادة تصميم خطاب ينسب فيه لنفسه دور صمام الأمان الذي يحول دون اندلاع حرب أهلية طائفية.
حزب الله حرص على عدم الظهور المباشر في الواجهة بل عاد للعزف على وتر عدم السماح بتجاوز حليفه الجنرال عون وكسره. نجح الحزب في جعل الأزمة كلها تتخذ في نهاية المطاف شكل الصراع السني المسيحي، أو شكل الصراع السني السني إثر تباين وجهات النظر بين الوزير نهاد المشنوق وكتلة نواب عكار ورئيس الحكومة نفسه في ما يخص موضوع النفايات.
شهدت جلسة مجلس الوزراء انسحاب وزراء التيار العوني وحزب الله، اعتراضا على ما أسماه وزير الخارجية جبران باسيل “مسرحية تجري لحل مشكلة النفايات”، وتمخضت عن قرار يقضي بإلغاء المناقصات، وإعادة الملف إلى اللجنة الوزارية المكلفة بدراستها.
هكذا عادت الأزمة إلى نقطة الصفر وعاد كل فريق إلى متراسه الأصلي. حزب الله سيعود إلى ممارسة لعبة شل الحكومة دون إسقاطها، والتيار العوني سيعود إلى العزف على وتر حقوق المسيحيين، والحكومة إلى رفع الصوت ضد التعطيل، والمستقبل إلى التحذير من الفراغ، والتيار المدني كذلك سيعود إلى الشارع، في حين أن النفايات كانت وستبقى.
كاتب لبناني