داعش وقبر دانتي ألغييري

لماذا اضطرّ من تنكب مشاقّ ترجمة "الكوميديا الإلهية" إلى حذف الأبيات التي أوردها دانتي ألغييري، في الأنشودة الثامنة والعشرين من "الجحيم"، (والتي تصوّر النبيّ الكريم، في الوادي التاسع، "وأحشاؤه تتدلى بين ساقيه"، والإمامَ عليّا وهو "يمضي باكيا/ مفلوع الرأس من هامته حتى ذقنه") كما فعل حسن عثمان في ترجمته التي صدرت عن دار المعارف المصرية عام 1959، أو إلى "إبهام" الشخصيّتين كما فعل كاظم جهاد في ترجمته الكاملة التي صدرت عن المؤسسة العربية عام 2002؟
يقول حسن عثمان في الحاشية الحادية والخمسين، من الحواشي التي وضعها للأنشودة الثامنة والعشرين "ولقد حذفت من هذه الأنشودة أبياتا وجدتها غير جديرة بالترجمة، وردت عن النبي محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.
وقد أخطأ دانتي في ذلك خطأ جسيما، تأثر فيه بما كان سائدا في عصره، بين العامة أو في المؤلفات، عن الرسول العظيم، بحيث لم يستطع أهل الغرب وقتئذ تقدير رسالة الإسلام الحقة وفهم حكمته الإلهية. على أنّ هذا لم يمنع أهل العصر -ومن بينهم دانتي- من تقدير الحضارة الإسلامية والتأثر بثمراتها، التي كانت عنصرا فعالا في خروج العالم الغربي من العصور الوسطى إلى عصر النهضة فالعصر الحديث".
بينما يذهب كاظم جهاد إلى القول في الحاشية الأولى التي وضعها لترجمته "يصف دانتي في هذه الأنشودة المكرسة لمحدِثي الشّقاق العذابَ الذي تتلقّاه شخصية إسلامية أساسيّة اضطررنا إلى إبهامها، بدل حذف الأبيات بأكملها كما فعل سلفنا الكبير الدكتور حسن عثمان (مع إشارته بكامل النزاهة إلى قيامه بهذا الحذف)".
فإذا كان حسن عثمان قد أشار بوضوح إلى حديث دانتي عن النبيّ محمد، وإلى اضطراره إلى حذف تلك الأبيات، لأنّ دانتي (والذي يهدي إلى ذكراه الترجمةَ العربيّة، بوصفه "الشاعر الأعظم) قد "أخطأ في ذلك خطأ جسيما"؛ فإنّ كاظم جهاد يكتفي بالتلميح إلى حديث دانتي عن العذاب الذي تتلقاه "شخصيّة اسلاميّة أساسيّة"، من دون أن يسمّيها باسمها، ولكنّه ينصحنا، كقرّاء، وفي ذات الحاشية، ربّما تبريرا من طرفه إلى السبب الذي دفعه إلى التلميح بدلا من التصريح، إلى "ضرورة قراءة هذه الأبيات قراءة تذهب إلى ما تشي به من »أعراض« وتلتفت فيها إلى تيارين نقيضين: الخلفية المذهبية الاحترابية التي تدفع إلى إحلال هذه الشخصية ومثيلاتها في هذا الموضع من جهة، وعاطفة دانتي الفياضة وتفجّعه لما يلقاه هذا المُعذَّب أمامه من جهة أخرى"، وبدون أن يغفل، أيضا، عن تذكيرنا بأنّ دانتي "أحلّ (في الأنشودة الرابعة) في اليمابيس (أي خارج منطقة العذاب) كلّا من صلاح الدين الأيوبي وابن سينا وابن رشد".
لا نعرف ما كتبه دانتي عن النبيّ في ترجمة حسن عثمان، ولا نعرف، في ترجمة كاظم جهاد المبهمة لهذه الأبيات، أنّ "الشخصية الإسلاميّة الأساسيّة" التي يتحدث عنها دانتي هي النبيّ محمد. حتى إنّ عليّا، والمذكور باسمه صراحة في أبيات دانتي، يحضر، في ترجمة كاظم جهاد، بوصفه "ابن عمّ" هذه الشخصيّة.
ولا بُدّ ألّا يفهم كلامي هذا على أنه انتقاص من قدر المترجمين الكبيرين، كما يتوجب ألّا يؤخذ على محمل أنني لا أقدّر "الاضطراريّة" التي دفعتهما إلى الحذف تارة، وإلى الإبهام تارة أخرى، حتى وإن كان ذلك نابعا من وازع ذاتيّ لديهما، وإنما هو استفتاح أردت منه الإشارة إلى الواقع المرّ، والمرير، الذي "قد" يعيشه المبدع العربيّ في مجتمعات "تكفّر" كل من يأتي بما لا تستهويه أهواءُ مستبدّيها (سلطة ومجتمعا ونظاما) ولا ترضاه ذائقتهم ولا تستسيغه أعرافهم.
كما دفعني إلى ذلك ما تردّد أخيرا، في صحيفة (Il Giornale) الإيطاليّة، على أنّ قبر صاحب الكوميديا الإلهيّة ضمن قائمة أهداف محتملة لأنصار تنظيم داعش الإرهابي. وما إن قرأ الإيطاليّون هذه الأخبار، حتى سارعت الشرطة إلى تشديد الحراسة على قبر دانتي، غير متجاهلين ما كتبه "أبو اللغة الإيطاليّة الحديثة" في كوميدياه عن النبيّ الكريم.
تحدث البعض على أن المرجع الحقيقي الذي استند إليه دانتي في عمله هذا، هو "كتاب الأسرار" و"الفتوحات المكيّة" لمحيي الدين بن عربي، حيث كان ألفونسو العاشر، ملك قشتالة، قد نقل التراث الأندلسي إلى اللغة القشتالية والفرنسية في تلك الفترة. كما أشار البعض إلى تأثره برسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وكتاب عالم الرجوع لحكيم سنائي ورسالة التوابع والزوابع لابن شهيد الأندلسي.
فهل يظلّ دور دانتي ألغييري حبيس ملامحه الحجريّة، كما في الرسمة الشهيرة التي أنجزها ساندرو بوتيشيلي، أم آن له أن يخرج من ثوبه الأحمر، وأن ترتدّ نظرته المتوتّرة الغائرة، تلك، على نفسها؟!
شاعر ومترجم من فلسطين
المقال ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الشهرية الثقافية اللندنية