الدراما العربية تعلن عجزها عن استمالة المشاهد

نظرة مغايرة تماما هي هذه التي نمتلكها اليوم -نحن أبناء العالم العربي المشتعل- إزاء القضايا الكبرى. الأمر الذي عكسته قضايانا الراهنة المعيشة، المتغيرة والصادمة في كثير من الأحيان. فلم يعد بالإمكان أن نعود كما كنا، مجرد مواطنين ساذجين “عاقلين” نعرف أعداءنا بوضوح وندلّ عليهم بكل جرأة وثقة، مشيرين إلى تلك البقعة الكامنة في ما وراء الحدود الجغرافية لوطننا.. وهو ما انسحب على الدراما أيضا.
الجمعة 2015/07/03
زمن المتلقي "الساذج" قد رحل

من الطبيعي ومن الضروري أيضا، أن يتجسّد الوعي المهلك والقاسي الذي اعترى مجتمعاتنا العربية في السنوات الأخيرة، وتغلغل في أرواحنا وتبدّى في عقولنا وأجسادنا، على الدراما في تشكيلاتها المختلفة، السينمائية والمسرحية والتلفزيونية، وعلى كل ما يقترب منها أو يوازيها.

ونقصد مما سبق، أن تلك الأفلام والأعمال الدرامية التي شكّلت في مراحل طفولتنا ومراهقتنا فواصل هامة، ونقاطا لعلامات حساسة، أبكتنا وأرهقت ذاكرتنا الفتية، بينما كانت تحكي عن الصمود العربي والتحديات الخارجية التي واجهت الأبطال على جبهات القتال.

صارت اليوم محطّ تساؤلات عديدة تحاول البحث في الأسباب المباشرة والبعيدة للأحداث، وتحلل التكتلات وتفهم وتفكك موازين القوى الدولية، ذلك الوقت المستقطع من الزمن. وربما بعد كل هذه العملية من التفتيش والإرجاع، لن نتمكن مجددا من التفاعل العاطفي الشديد الذي كان يشكّل ردة فعلنا في الماضي.

ونحن هنا لا نسقط الأهمية التي تحتلها القضايا الكبرى لدينا في الوقت الراهن، مثل احتلال فلسطين والجولان ومؤخرا الاحتلال الأميركي للعراق، إنما نسعى إلى تلمس الخطوط نحو الحقيقة. فبغض النظر عن وجود الكثيرين من المثقفين والمفكرين والسياسيين الذين كانوا يفقهون اللعبة ويعرفون تقلباتها، كان آخرون، وهم الغالبية، يصدّقون دون تفكير وجود نمطين للصراع لا أكثر: الخير والشر أو شعب محتل واحتلال، وهو ما كانت تصدّره وسائل الإعلام الرسمية وتبعاتها الدرامية في بلداننا.

ومع ذلك اختلف الحال مع دخولنا معترك السنوات الأخيرة، وباتت الحقائق تتكشف وصار من المستحيل تصديق ما كانت تقدمه لنا بعض الأفلام والمسلسلات من حبكات بسيطة وشخصيات مسطّحة ونمطية، نقرأ عنها في الصحف الرسمية في ذات البلدان التي نشبت فيها الثورات العربية.

لن نتمكن مجددا من التفاعل العاطفي الشديد إزاء الأعمال الدرامية التي تناولت قضايانا الكبرى

وهو ما أصبحنا نرى حيثياته وتبعاته من خلال ردود أفعال المواطن المشغول بهموم قوته “البسيط”. فقد استبدل إنساننا اليومي التسطيح والتصديق بالنقد والجدل والسؤال، وغيرها من المفردات والمصطلحات المشابهة في المعنى. وبالتالي أصبح المواطن العربي، يطالب بدراما واعية موازية لإدراكه الذي بدأ يتشكّل.

ومن الطبيعي أنه لم يعد يقبل بمسلسلات استهلاكية تقوم على السذاجة والاختلاقات التاريخية الكارثية مثل ما يحدث في مسلسل “باب الحارة” بأجزائه السبعة، ومسلسل “الغالبون” من تأليف وسيناريو وحوار فتح الله عمر، وإخراج باسل الخطيب، وغيرهما من المسلسلات والأفلام والأعمال التي “تستغبي” المتلقي، محاولة أن تصوّر له الواقع كما تريده الأنظمة الحاكمة، بعيدا عن الارتباطات والتشعبات المعقدة للعلاقات والمفاهيم.

على الطرف الآخر، ثمة أعمال معاصرة، تتجه نحو الحقيقة بصورة منطقية قابلة للتحليل حسب وجهات النظر العديدة والمتباينة. فتراها ترصد الوقائع بعين حذرة، توثيقية لا تخلو من الخيال الإبداعي، تعتمد على معطيات فرضتها الصراعات القائمة وتخاطب المتلقي الجديد.

وفي المقابل وعلى الرغم من جدية هذه التكشفات الفنية، لم تنجح أدواتها كثيرا، في أن تستقطب جمهورا واسعا، ربما لأن المكان والزمان ليسا على ما يرام بالنسبة إلى المشاهدين، وربما لأن الفن صار مطالبا بأن يصل إلى هيستيرية الواقع وقسوته، وهذا قد يكون مستحيلا بالفعل.

17