"الحياة في الحامية الرومانية" سيرة معاصرة للمثقف العراقي في المهجر

عاش العديد من المثقفين والكتاب والشعراء العراقيين في العاصمة الأردنية عمان خلال تسعينات القرن الماضي، وذلك هربا من ظروف وصعوبات الحصار الذي كان مفروضا على العراق، وكذلك محاولة منهم الخلاص من ملاحقات ومضايقات وعمليات القتل والاعتقال الممارسة في حقهم من قبل المخابرات العراقية، فكان الأردن وجهتهم المفضلة لقربه ولهامش الحرية الكبير المتوفر فيه، ولكونه محطة للعديد منهم إلى دول أوروبية وغيرها.
الأربعاء 2015/06/10
ذاكرة المؤلف حية وزاخرة بحيثيات الحياة اليومية له وللعديد من أصدقائه لفترة زمنية حساسة

يكتنز كتاب “الحياة في الحامية الرومانية: سيرة أخرى للمثقف العراقي”، لمؤلفه هادي الحسيني، والصادر عن “دار نينوى للنشر والتوزيع”، بحكايات شديدة الواقعية ويعدّ سيرة أخرى للمثقف العراقي كما أحب المؤلف أن يعنون كتابه، إذ أن الكتاب يتحدث عن مرحلة تحتاج أن يتمّ تسليط الضوء عليها، وهي المرحلة التي كان فيها المثقفون العراقيون يلاقون الصعوبات في سبيل لقمة العيش ومساعدة أسرهم التي تركوها، ومنهم من كان يتخذ من الأردن ملاذا شبه آمن له، في انتظار السفر إلى أوروبا وأميركا وأستراليا.

صعوبات ومضايقات

بادئ ذي بدء يتحدث المؤلف عن معاناته الشديدة أثناء محاولته السفر خارج العراق باتجاه العاصمة الأردنية عمان حيث أصدقاؤه ومعارفه، يقول “بعد كبير عناء استطعت أن أنتزع من دائرة التجنيد ورقة صحة التسريح التي كانت دائرة الجوازات قد طلبتها مني لغرض إكمال معاملة جواز سفري (…) وكنت قد التقيت الشاعر خالد مطلك الذي طلب مني أن آتي إلى مكتبه في اتحاد الأدباء لكي يسلمني بعض الرسائل لأصدقائنا في الأردن، وكذلك البريد الشهري لاتحاد أدباء العراق إلى اتحاد الأدباء والكتاب العرب الذي كان مقرّ أمانته العامة في الأردن”.

هادي الحسيني، الذي هاجر عام 1998 إلى النرويج بعد موافقة مفوضة الأمم المتحدة على طلب لجوئه، يلاقي مضايقات على الحدود الأردنية العراقية عند حاجز الحكومة العراقية، وبصعوبة ينفذ من المعبر الحدودي بعد تفتيشه، ذلك أن خفر الحدود كانوا يفتشون الجوازات وما يحمله المواطن من أموال بحيث أن المسموح بحمله خمسون دولارا فقط، وهو لم يكن يحمل في جيبه سوى خمسة دنانير عراقية وعلبة سجائر لكي يبيعها بعمّان، وحدث أن ضايقه عنصران في الحاجز، الأمر الذي أغضب الضابط وردعهم عنه وقال لهم بما معناه ما بالكم تتركون المهربين وتركزون على هذا المسكين وعلبة السجائر الوحيدة التي يحملها معه؟

هادي الحسيني وصل إلى العاصمة الأردنية عمان وفي جيبه خمسة دنانير عراقية وعلبة سجائر

الحسيني وهو يتوجه إلى عمّان لا يعرف عنوان أيّ من أصدقائه الأدباء والشعراء، ولكنه يعرف أنهم يرتادون مقهى العاصمة، وبعد وصوله إلى عمان يتجه إلى المقهى، وعند دخوله لم يجد سوى ثلاثة أو أربعة رجال جالسين أمام المدفأة النفطية الكبيرة وهو يعاني البرد القارس، كانت نارها قوية وحامية، وتمكن من خلالها من تجفيف ثيابه بعد أن ابتلت بمياه المطر وذلك أثناء نزوله في عمّان وتوجهه إلى المقهى.

وبعد دقائق من مكوثه في المقهى فوجئ بمجيء الشاعر العراقي عبدالعظيم فنجان، وبعد لحظات دخل القاص علي السوداني والشاعر محمد تركي النصار، وكان حسب الحسيني لقاء جميلا وحميميا، خاصة عندما قدّم لهم الحسيني رسائل الأصدقاء من بغداد وتحدثوا له عن أوضاعهم المزرية في عمّان إذ أن فرص العمل شبه مفقودة، ثمّ دخل الشاعر نصيف الناصري وبعد اللقاء الجميل حمل الناصري حقيبة الحسيني على ظهره واصطحبه إلى حيث يسكن، غرفة بائسة مع مجموعة من العراقيين.

التقى الحسيني بالعديد من الشعراء والأدباء العراقيين في عمّان وتعرّف على همومهم ومشاغلهم ومن هؤلاء الشعراء جان دمو، المعروف وسام هاشم، علي عباس علوان، علي السوداني، محمد تركي النصار، حسب الشيخ جعفر، حسن الصحن، حسن السعيدي، فاضل جواد، محمود جنداري وغيرهم.

ويشير إلى أن أصدقاء أخيه كانوا من الأدباء الشباب في بداية النصف الثاني من عقد السبعينات، ويتذكرهم الحسيني، ويتذكر لهفتهم وشوقهم لقراءة كتب الأدب.

كان شاكر لعيبي وحميد قاسم ونجم والي وهاشم شفيق وآخرون غيرهم من الشباب، قد أصبحوا في ما بعد جيل السبعينات الشعري، لكن كثيرا منهم غادروا العراق إلى سوريا ولبنان، بعد أن تعرضوا للاعتقال والاستجواب جراء انتماءاتهم إلى الحزب الشيوعي العراقي آنذاك، ومنهم من تزوّج واستقرّ داخل العراق وواصل مشروعه الشعري.

الهجرة الأولى والثانية

كانت الهجرة الأولى للمثقفين العراقيين قد بدأت عام 1978، فغادر كل من الشاعر هاشم شفيق والشاعر فوزي كريم بعد أن وجهت لهم دعوة رسمية للمشاركة في مهرجان عربي، ومن خلال ذلك المهرجان تمكنوا من الإفلات وعدم العودة إلى العراق، كما فعلها الراحل كمال سبتي بعدهما بعقد من الزمان، ثم سافر من سافر، والذي بقي تمّ إرساله إلى جبهات القتال بعد أن بدأت الحرب العراقية عام 1980، ومات من مات ونجا من نجا من تلك الحرب، أما الذين غادروا العراق قبل الحرب فقد ضاعت أخبارهم، إذ السفر ممنوع والحياة أصبحت داخل العراق أشبه بمعركة سواء كنت داخل المدينة أو على جبهات القتال، فالأمر سيّان.

الهجرة خيار صعب لكنها الحل المناسب أمام القتل والاعتقال

انتهت الحرب وما إن بدأت فترة الحصار حتى بدأت الهجرة الثانية للمثقفين العراقيين فكانت الوجهة هي الأردن هذه المرة، في الأردن كانت الصحافة حرة بنسبة كبيرة جدا، ولا خطر على المطبوعات، وكان المؤلف وأصدقاؤه يقرأون نصوصا للشعراء الذين غادروا العراق في أواخر سبعينات القرن الماضي، وخاصة أولئك الذين كان المؤلف يلتقيهم وهو صغير، ويذكر أنه في عام 1998 مع بدء نشاطات مهرجان جرش تمّت دعوة العديد من الشعراء العراقيين، كان الحسيني -مؤلف الكتاب الحالي- يحلم برؤيتهم وهم: هاشم شفيق وسركون بولص وفاطمة المحسن، وقد تحقق حلمه في هذا المهرجان، كما أن الحسيني قد التقى بالبياتي مرات عديدة أثناء تواجده في عمان.

“الحياة في الحامية الرومانية: سيرة أخرى للمثقف العراقي” كتاب يؤرشف ويوثق لمرحلة حساسة وشاقّة من مراحل المعاناة العراقية، التي تمثلت في هجرة رموز الإبداع العراقي، وعلى رأسهم الشعراء والقصاصين والروائيين ورجال المسرح والفن التشكيلي العراقي، إلى دول الجوار وأوروبا.

14