كراهية الذات وعقدة الذنب في المسرحية اللندنية "يهود سيئون"

إنهم في هذه المسرحية “سيّئون” بالفعل، و”سيّئون” هنا تعني “غير ملتزمين بالقواعد” لا “أشرارا”. لم يشفع هذا المنطق اللغوي البسيط لمنتج “يهود سيّئون” عند هيئة مواصلات لندن التي رفضت وضع إعلان المسرحية على سلالم المترو، ويظهر الأبطال الأربعة وهم ملتحمون في شجار جسدي.
اعترضت الهيئة في تصريح رسمي قائلة إنه “قد يتسبب في إهانة بالغة للآخرين”، ولم تعدل عن قرارها حتى مع تصريح المنتج داني موار بأن نصف العاملين في المسرحية يهود، وهو يهودي، وكاتبها جوشوا هارمون يهودي، ونصف المتفرجين من اليهود. حاول دون جدوى استغلال واقعة أخرى مدوية لصالحه واصفا القرار بالغرابة “في أعقاب أحداث شارلي إبدو، فقد التحم الجميع في مسيرة ضدّ الرقابة”.
كانت هيئة الإعلانات النموذجية قد وافقت على الملصق وأفتى مجلس الوكلاء البريطاني، وهي الهيئة الممثّلة لليهود في بريطانيا، بأن الملصق مقبول فيما منحت الجريدة اليهودية جويش كرونوكل المسرحية تقديرا نقديا نادرا من خمس نجوم. وعليه فكل الناس الذين تدّعي هيئة المواصلات حماية مشاعرهم في هذه الخطوة الرقابية بامتياز ليسوا في حاجة إلى هذه الوصاية.
ليست هذه هي السابقة الأولى لهيئة المواصلات، فقد رفضت مؤخرا ملصق ترويج لمسرحية “ليلتي مع ريج” على مسرح أبوللو اعتراضا على ما به من عري، كما وجدت أن ملصقا للجماعة المسيحية المسماة “أمانة القضايا الجوهرية” ينتهك سياستها، إذ أوحى بأن بمقدور الجماعة مساعدة المثليين على تغيير ميولهم الجنسية.
|
دراسة عن الملامح اليهودية
صحيح حقا أن نصف الحضور من اليهود؛ حين تدلف إلى مسرح سانت جيمز اللندني تتمكن من خلال نظرة بانورامية إلى المسرح الممتلئ عن آخره من إجراء دراسة مستفيضة عن الملامح اليهودية في بريطانيا. تقاطيع الرجال حادة عريضة، الملامح شرق أوسطية لولا الأنف المهيمن، والنساء نسخ ناعمة من وجوه الرجال، بها من القوة مثل ما بها من الغموض.
فاتتني فرصة عظيمة لتبيّن علامات الاستياء على هذه الوجوه الحيادية حين نسيت التلفع بكوفيتي الفلسطينية عند حضور العرض!
كان كافكا قد سأل في مذكراته عام 1913، “ما الذي أشترك فيه مع اليهود؟ إنني لا أشترك في أيّ شيء تقريبا مع نفسي”. بحلول عام 1945 بات اليهود يتقاسمون تاريخا من الذنب. أكد الكاتب الأميركي فيليب روث ذات مرة أن اليهود أناس مختلفون عما يدّعيه المعادون للسامية. ولكن المؤرخ الأميركي ساندر ديلمان يعتقد أن اليهود حاولوا أن يتحوّروا كي يشبهوا أعداءهم، وفي غضون عملية الاندماج هذه كان عليهم أن يبطنوا معاداة السامية، معاداة أضمرتها الدول التي آوتهم، ومن ثمّ ولّدوا طواعية كراهيتهم لأنفسهم.
الحق أنه لا يمكن إلصاق تهمة معاداة السامية بـ”يهود سيّئون” (بالمعنى اليهودي الدارج، لا المعنى اللفظي لكلمة “السامية” الذي يشمل غير اليهود). لا تنقطع دافنا مندوبة الساميين عن الصراخ في وجهي ابني عمها، “التلمود، التوراة، التقاليد، التراث!!” يلمّ بها الانزعاج حين تنبئها خطيبة ابن عمّها ليام أن بها عرقا ألمانيا. تصرّ على أنك يجب أن تتخذ موقفا معاديا من الفلسطينيين -تتجنب النطق بكلمة “فلسطين”- إن كنت تدين باليهودية في أيّة بقعة من العالم.
الفتاة فجّة في صرامتها وتشبثها بالأجداد وتضحياتهم. إنها “مجنونة، مخبولة” بالتراث اليهودي، ومستقبلها يكاد يتعلق بهولوكوست الماضي. عانى جدّها طويلا في المعسكرات النازية. كان يمتلك سلسلة ذهبية أبقاها تحت لسانه شهورا ليخفيها عن أعين الألمان. والسلسلة هي أثمن ما خلفه بعد أن فارق الحياة، بمغزاها الديني الذي “يفخر به التاريخ” مثلما تباهت الفتاة.
يرغب ليام الملحد، ويقوم بدوره إيان جودمان، في تقديم السلسلة إلى خطيبته المسيحية عندما يطلب يدها للزواج. وكانت الفجيعة حين تعلم دافنا فتلتحم معه في جدال لفظي مطوّل عن الإرث ومسؤوليــة الجيـل الرابع من الهولوكوست عن إبقاء المعاناة حيّة، تتوارثها الأجيال.
ثالثهما الأخ الأصغر الضائع في المنتصف، لا هو رجل دين، ولا رجل دنيا. ينفجر الملحد والمتطرفة إحباطا وغضبا، في حين يتحلى الثالث بالصمت أو التحفظ في أفضل الأحوال. ولكنه هو من سيرسم خط النهاية ويسدل ستار المسرحية عندما ندرك تمزقه بين فجيعته الأبدية على جدّه وتلهفه على الوجود بمنأى عن عقدة الذنب وابتزاز الآخر.
إنه الشدّ والجذب الأزليان بين العرف الديني والعولمة أو الاختلاط حتى التلاشي بين الأعراق
الأصول تعرفنا
ولكن من هو المستحق للسلسلة؟ أهي دافنا المهووسة بالسيطرة التي لولا أنها أنثى لضفرت شعرها كالرجال اليهود عند حائط المبكى؟! أم أنه ليام المتشوق لتجربة الحياة عن إيمان بأن لا فرق بين اليهودي وغيره، رافضا أن يشق له الدين الطريق. وهكذا تصير شقة فاخرة في مانهاتن مسرحا لدروس صاخبة في التطرف والولاء من جانب، والإنسانية والانسلاخ من جانب آخر.
من نحن؟ وإلى أي مدى تعرّفنا الأصول؟ تطرح المسرحية أفكارا جريئة تمس كل الأديان، علاقتنا بفكرة الإيمان، أمحلّه القلب والمسلك، أم أحذيتنا البالية في ارتيادنا للمسجد والكنيسة والمعبد بلا انقطاع؟ ومع طرح بعض التساؤلات، يقطع النص بأن لا مجال لفرض الدين أو التباهي به باعتباره منجزا إنسانيا.
يجتمع أبناء العم الثلاثة بما يسمح لهم بالضرب والزعيق والعناق، لأن “أهم شخص في عائلتهم” مات. تمتزج التوترات العائلية بمثيلتها الدينية، ووفاة الجدّ قد تفضي حقا إلى إسالة الدماء. تتصاعد حدّة الخلاف بألمعية شديدة في كتابة النص خلال ساعة ونصف من الجدل حتى تحل الكارثة، إذ يمسك كل واحد منهم بتلابيب الآخر قبل يوم من الجنازة المشهودة.
إنه الشدّ والجذب الأزليان بين العرف الديني والعولمة أو الاختلاط حتى التلاشي بين الأعراق. تهتف دافنا إلى ليام بصوت جنوني، “سوف تتزوج بها وتنجب أطفالا نصف يهود، وسوف يتزوجون من دين آخر، وينجبون أطفالا ربع يهود”.
لا ريب أن البطلة يتلبّسها منطق الحرب العالمية الثانية في عنفوان الخطر النازي، ولكنه في عام 2015 والدنيا قد تغيّرت. عقود مضت على الهولوكوست ولا يزال اليهود ينهلون خيرا من معاناة الأجداد. ومثلما على المسلمين أن ينهضوا من غياهب القرن الرابع عشر، والمسيحيين من خزي الحروب الصليبية، سوف يسدي اليهود العالم صنيعا إن تجاوزوا شعائر الماضي بكل تطرفه، وتضليله أحيانا.
جذورنا المتهرئة
من السهل دحض النقد المسدّد إلى المسرحية بأنها يمينية متشددة. لا تنحاز “يهود سيّئون” مطلقا إلى اليمين، وإنما إلينا. إنها مسرحيتنا جميعا، نتمسك حتى آخر رمق بالغائب والفائت والمنقرض، جذورنا المتهرّئة الضاربة في التاريخ والمنفصلة عن عالم الحاضر والواقع، “ولكنها جذورنا”، تنبس دافنا بنبرة خافتة وقلب كسير، أجل، نتعامل معها كأمر محتوم إن شرّقنا أو غرّبنا.
تستحضر هذه المسرحية قصة “ابنتا الخالة” للكاتبة الأميركية جويس كارول أوتس، وتستنكر إحدى بطلتيها “تقوى الهولوكوست هذه! فرّت مني ضحكة، لقد استخدمت تلك الكلمة والإجلال يرين عليك في أحد خطاباتك. لا أستخدم أبدا هذه الكلمة التي تنزلق الآن على ألسنة الأميركيين مثل الدهن”.
خرج الطبيب النفسي البريطاني آدم فيليب في مقالته “ريبيكا، اخلعي عنك ثوبك”، إن يهود غرب أوروبا اضطرّوا منذ العصور الوسطى إلى أن يفطنوا إلى “يهوديّ غير مقبول” في باطنهم، ثم اضطرّوا إلى أن ينبذوه كي يبقوا على قيد الحياة. وما نجم عن هذا هو شكل خبيث من أشكال معاداة اليهود لأنفسهم. تقول البطلة في إحدى فقرات قصة “ابنتا الخالة”:
رمى أحد النقاد اللاذعين مورجنشترن بالخائنة التي تبث العزاء في نفس العدو -أيّ عدو؟ هناك كثيرون- لمجرد أني صرّحت، وسأعيد التصريح متى يسألني أحد بأن “الهولوكوست” حادثة من حوادث التاريخ كما أن كل وقائع التاريخ حوادث؛ لا غرض من التاريخ مثلما لا غرض من النشوء، لا هدف ولا تطوّر.
إن النشوء مصطلح يطلق على ما هو كائن. يروم الورعون المستغرقون في أحلام اليقظة الادّعاء أن حملة الإبادة الجماعية التي انتهجها النازيون حادثة متفردة في التاريخ، وأنها سمت بنا فوق التاريخ. هراء فارغ، هكذا قلت، لن أنزع عن القول. لقد جرت العديد من حملات الإبادة الجماعية، طالما قامت البشرية على الأرض. إن التاريخ تلفيق من الكتب.
|
ضحك هستيري
سوف يصعب على غير الخبير بمأزق اليهود إبان الحرب العالمية الثانية أن يلتقط عددا من التفاصيل، وأن لن يغيب عنه لبّ الكوميديا. قد تبدو كل هذه المواضيع غاية في الجديّة إلا أن هارمون كتب مشاهد لن يكف معها المتفرج عن الضحك لحظة، بل وسيتساءل كيف بمقدور الممثلين التسامي بهذا الأداء الرفيع وسط موجات الضحك المتتالية؟ إنها ولا شك أكثر مسرحية مضحكة شاهدتها في حياتي!
تقوم المذهلة جينا أوجن الفائزة بجائزة أفضل ممثلة مساعدة من جوائز المسرح البريطاني، عن دور دافنا. توقيتها الكوميدي رائع، ووقفاتها تحمل بوتقة من المضامين والتلميحات: رفعة إصبعها، هزة رأسها، خطوتها المحسوبة يمينا أو يسارا، وقد أبدع المخرج مايكل لونجهيرست في كل تعليماته دون استثناء.
المعجز هو قدرة أوجن على تكثيف فقرات قد تتواصل لمدة عشر دقائق من الحديث -أو بالأحرى الصياح- عن واجب اليهودية، وجدّها الميت لتوّه وخطيبها جلعاد الضابط في الجيش الإسرائيلي. يغيظها ابن عمها الملحد متهما إياها باختلاق هذا الخطيب، اخترعته كي تلصق نفسها عاطفيا وعنوة “بالأرض الموعودة”. فالفتاة متصلبة تصطنع المرح، لا تخطر ببالها إلا نصوص العهد القديم، وتقيس قيمة من حولها بمدى اقترابهم أو ابتعادهم عن النص الإلهي. هل تذكّركم هذه الخصال ببعض أصحاب الأديان الأخرى؟
إقرأ أيضاً: أنقاض الجسد والعقل في رائعة بيكيت السيريالية 'أيام سعيدة'