السيّاب بين الأيديولوجي والفلسفي

الأربعاء 2014/12/24
الجسد المتهالك يخطو نحو العدم فيفجر قريحة الشاعر باللاجدوى والعبث

تغري تجربة السياب الشعرية بمقاربة هي للفلسفة أقرب. كيف لا وقد عاش السياب عمره مهجوسا بالحياة وبالموت معا. بل إنك لتتساءل كيف تأتّى لشاعر أن يقيم على ضفتين معا ويعبّر عن وجوده المتناقض في القصيدة الواحدة أحيانا.

إن المسألة هنا ليس مجرّد قول في الأمرين، بل تجربة معيشة انعكست على قوة القول وجماليته أيضا.

وعندي، إن السياب كان يعيش الحياة ويعبّر عنها بوصفها تجربة أيديولوجية، فهو منتم إلى أيديولوجيا ماركسية ثورية، أيديولوجيا الأمل والخلاص والحياة الكريمة، فيما عاش الموت وعبّر عنه من حيث هو جسد يعيش تجربة الموت الواقعية على مرأى من الشاعر، فالجسد المتهالك يخطو نحو العدم فيفجر قريحة الشاعر باللاجدوى والعبث، والألم بالعدم:

في كل قطرة من المطر

حمراء أو صفراء من أجنة الزهر

وكل دمعة من الجياع والعراة

وكل قطرة تراق من دم العبيد

فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد

في عالم الغد الفتي واهب الحياة

مطر مطر مطر.

في هذا المقطع من أنشودة المطر نجد كل ما يشير إلى أيديولوجيا المستقبل والوعد بالحياة كما يجب أن تكون، فها هي الألفاظ : المطر، الزهر، الدمع، الجياع ، العبيد، الدم، الابتسام، الغد، الحياة، تتشابك لتعلن موقفا أيديولوجيا شعريا بالانتماء إلى حياة جديدة موعودة. حياة يصنعها العراق الذي يدّخر الرعود ويخزن البروق في السهول والجبال، ورياح الثورة إذ تنفجر لن تترك أيّ أثر لثمود رمز الظلم.

في شعر الحياة الموعودة مباشرة المناضل حيث تتعرض الشعرية إلى نوع من النحول:

تقولين نحن ابتداء الطريق

ونحن الذين اعتصرنا الحياة

من الصخر تدمى عليه الجباه

ويمتص ريّ الجباه

من الموت في موحشات السجون

من البؤس من خاويات البطون

لأجيالها الآتية

لنا الكوكب الطالع

وصبح الغد الساطع

وآصاله الزاهية.

لا يمكن النظر إلى هذا النمط من القول الشعري إلا انطلاقا من روح الحماس الأيديولوجي الذي يفسد الشعر. بل إن مقطعا كهذا لو أخذ لوحده دليلا على ضعف الشعرية لكان السياب في عداد الضعفاء شعريا.

غير إننا يجب أن نحذر من إطلاق حكم ما على الشاعر بناء على تجربة قصيرة أو قصيدة تحريض تخاطب الناس كي تمنحهم قوة الأمل والحياة، كما هي الحال مع: سجل أنا عربي.

الشعر حين يمتلئ بالتناقض الطبقي والصراع الطبقي الذي ينتهي بتحطيم القيود وانتصار الفقراء على بؤسهم فهو إلى البيان السياسي أقرب.

لكن السياب حين انتقل من هذه الروح الثورية الجماعية إلى المعذبين في تعيينهم الفردي، انتقل إلى الشعري في عمقه الفلسفي الأجمل، ففي قصائد حفار القبور والمومس العمياء والمخبر، نضع يدنا على البؤس الإنساني في حالاته المعيشة.

في المومس العمياء نعثر على شعرية تراجيدية خلابة، يمتزج فيها القهر والحزن والخوف والجوع في تجربة مومس لم تعد موضوعا.

نعثر على الأساطير ودلالاتها في شعرية تتدفق دون عناء، ميدوزا، بابل أوديب، قابيل، طيبة أبو الهول كل هذا حاضر في تجربة جسد غير قادر على الإغراء في مدينة هي عمياء كالخفاش في وضح النهار.

أما حفار القبور هذا الذي لا يحيا إذا لم يدفن الميّتين، فهي من القصائد النادرة في موضوعها:

واخيبتاه ألن أعيش بغير موت الآخرين

والطيبات من الرغيف إلى النساء إلى البنين

هي منة الموتى عليّ فكيف أشفق بالأنام

فلتمطرهن القذائف بالحديد وبالضرام.

إن حفار القبور هذا ليس مجرما لكنه يتمنى أن تندلع، الحروب كي يعيش سعيدا.

أنا لست أحقر من سواي

وإن قسوت فلي شفيع

إني كوحش في الفلاء

لم أقرأ الكتب الضخام وشافعي ظمأ وجوع.

حفار القبور ليس قاتلا، مهنته أن يدفن الموتى كي يعيش، موتى لا علاقة له بموتهم، وحبه الموتى هو ثمرة حبه للحياة، وصراخ الأمعاء الفارغة بتمني أن تندلع الحروب، فيكثر الموتى كي تتحرر من جوعها.

في الوقت الذي نجد تعاطف الشاعر مع حفار القبور الذي يحب الحياة، وحياته غير ممكنة بدون الموت نجده في قصيدة "المخبر" قاسيا على هذا النمط من الكائنات. لأنها مصدر الموت للآخر، فالمخبر عدو الحياة:

أنا ما تشاء أنا الحقير

صباغ أحذية الغزاة وبائع الدم والضمير.

للظالمين أنا الغراب

يقتات من جثث الفراخ أنا الدمار أنا الخراب.

أنا ما تشاء أنا اللئيم أنا الغبي أنا الحقود

أنا حامل الأغلال في نفسي أقيد من أشاء

بمثلهن من الحديد.

ليس مفهوم الحياة هنا إلى تلك التي يعتدي عليها المخبر الذي يعي ذاته على أنه أسفل الأسافل، وليس يكترث بصورته عند الآخر. إنه العدم الذي يلاحق حياة الحر. إن الحياة هنا في خطر لا بسبب الموت الذي هو قدر بل بسبب الموت الآتي من المخبر.

لم ينفصل مفهوم الحياة عن العراق، فلسنا واجدين فلسفة حياة خاصة بالشاعر، وما دفاعه عن الحياة إلاّ دفاعا عن وطن وعن معذبين. ولهذا ظل مشدودا إلى مهمة الشاعر الوطني الطبقي، حتى في قصيدته التي عنونها بوصية محتضر فإنه يتوسل الحياة إلى العراق:

أنا إن مت يا وطني فقبر في مقابرك الكئيبة

أقصى مناي وإن سلمت فإن كوخا في الحقول

هو ما أريد من الحياة فدى صحاراك الرحيبة.

قصيدة بويب
بويب يا بويب

أجراس برج ضاع في قرارة البحر

الماء في الجرار والغروب في الشجر

وتنضح الجرار أجراسا من المطر

بلورها يذوب في أنين

بويب يا بويب

فيدلهم في دمي حنين

إليك يا بويب

يا نهري الحزين كالمطر

أود لو عدوت في الظلام

أشد قبضتي تحملان شوق عام

في كل إصبع كأني أحمل النّذور

إليك من قمح ومن زهور

أود لو أطل من أسرّة التلال

لألمح القمر

يخوض بين ضفتيك يزرع الظلال

ويملأ السّلال

بالماء والأسماك والزهر

أود لو أخوض فيك أتبع القمر

و أسمع الحصى يصل منك في القرار

صليل آلاف العصافير على الشجر

أغابة من الدموع أنت أم نهر

والسمك الساهر هل ينام في السّحر

وهذه النجوم هل تظل في انتظار

تطعم بالحرير آلافا من الإبر

وأنت يا بويب

أود لو عرفت فيك ألقط المحار

أشيد منه دار

يضيء فيها خضرة المياه والشّجر

ما تنضح النجوم والقمر

وأغتدي فيك مع الجزر إلى البحر

فالموت عالم غريب يفتن الصّغار

وبابه الخفي كان فيك يا بويب

***

بويب .. يابويب

عشرون قد مضين كالدّهور كل عام

واليوم حين يطبق الظلام

وأستقرّ في السرير دون أن أنام

وأرهف الضمير دوحة إلى السّحر

مرهفة الغصون والطيور والثمر

أحسّ بالدّماء والدموع كالمطر

ينضحهنّ العالم الحزين

أجراس موتى في عروقي ترعش الرنين

فيدلهم في دمي حنين

إلى رصاصة يشق ثلجها الزّؤام

أعماق صدري كالجحيم يشعل العظام

أود لو عدوت أعضد المكافحين

أشدّ قبضتيّ ثم اصفع القدر

أود لو غرقت في دمي إلى القرار

لأحمل العبء مع البشر

وأبعث الحياة إن موتى انتصار

* بدر شاكر السياب

ماذا يعني إن الشاعر لا يكترث بموته الخاص لقاء حياة الوطن، ولماذا هذا الوعي بتفاهة الموت الخاص وعظمة الحياة الكلية.

ليس أمر كهذا بغريب عن خطاب الشهادة من أجل الوطن، تكرار لقول معروف مفاده نموت نموت ويحيا الوطن، إنه الوعي العام الذي يعلن أن الموت من أجل الوطن شأن من شؤون البطولة، لكن السياب يعيش موتا خاصا، موت جسد مريض، وها هو لكي يعطي موته العادي معنى كليا يربط بين موته وحياة العراق عبر عاطفة وطنية جياشة.

نقرأ في وصية محتضر نفسها:

أنا قد أموت غدا فإن الداء يقرض غير وان

حبلا يشدّ إلى الحياة حطام جسم مثل دار

نخرت جوانبها الرياح وسقفها سيل القطار

يا إخوتي المتناثرين من الجنوب إلى الشمال

بين المعابر والسهول وبين عالية الجبال

......

خير البلاد سكنتموها بين خضراء وماء

......

هي جنة فحذار من أفعى تدبّ على ثراها

أنا ميت لا يكذب الموتى وأكفر بالمعاني

إن كان غير القلب منبعها

فيا ألق النهار

اغمر بعسجدك العراق فإن من طين العراق

جسدي ومن ماء العراق.

وما خطبة الوداع هذه لجسد على وشك الموت إلا التعبير الأدق عن وعي نضالي بالحياة من أجل حياة الوطن، ووعي كهذا في تلك المرحلة حيث الطبقة والحزب والوطن والأمة كان وعيا عاما. فما قيمة الفناء الفردي، والحال هذه، أمام حياة العراق. العراق المحدد من قبل ندائه، عراق إخوته المنتشرين في القرى وفي السهول والجبال والمعابر.

لم يستطع هنا وفي هذه الشكل من الوعي إلا أن يقلل من شأن فنائه بنوع من الإعلاء من شأن عراق المعذبين.

ومع ذلك، ودون الشك بصدق المعنى الصادر عن قلب الشاعر فليس هنا معنى لهذا الترابط بين هذا الجسد المتثاقل والدفاع عن حياة العراق.

أم تراه أراد أن يمنح موته المعنى العظيم في تعظيم حياة الوطن عبر خطاب يمجد العراق صادر عن شاعر على وشك أن يودّع وجوده الحي.

ما الذي جعل السياب متعلقا، كما يشي شعره، بالعراق؟

في غريب على الخليج نلمح أيضا هذا التعلق العميق بالعراق والتوحد به توحدا صوفيا:

لو جئت في البلد الغريب إليّ ما كمل اللقاء

الملتقى بك والعراق على يدي هو اللقاء

شوق يخض دمي إليه، كأن دمي اشتهاء

شوق الجنين إذا اشرأب من الظلام إلى الولادة.

ربما كانت فكرة الموت التي عاشها السياب قد وضعته في عالم الفراق المعيش والحتمي وعلائم التشبث في الوجود الحي، وضعته في تجربة مغادرة العالم الذي يحب، فصار حبه للعراق نوع من الألم المضني في تجربة العيش في حضرة الموت.

في لاوعي الشاعر المنهزم أمام الموت رغبة في الاحتضان من الأم - العراق

عل هذا الاحتضان يمنحه بقاء بين ذراعي وطن يرفعه إلى مستوى الوجود المطلق.

وما تأكيده على أن جسده من ماء العراق وطين العراق إلا شكل من أشكال التشبث بالحياة عبر التشبث بحياة العراق.

لكن تجربة الموت والحياة في علاقتها بالأيديولوجيا لن تدوم طويلا، فتجربة الموت أعظم وأخطر تجربة يعيشها الإنسان وبخاصة إذا كان يرى موته على بعد بسيط منه، و هي تجربة أعظم من تلك التجربة التي تحدث عنها هيدجر- تجربة الشعور بالعدم.

حين يقف السياب وجها لوجه أمام الموت لا يعود للعراق وجود ولا يعود للأيديولوجيا حضور، فساعة الحقيقة أقوى من الخطابة وحب الحياة الخاصة أقوى من التضحية بها عبر اللغة.

في تجربة الموت يصبح الشاعر فيلسوف العدم الذي يتوسل اللغة الشعرية للتعبير عنها:

يمدون أعناقهم من ألوف القبور يصيحون بي

أن تعال

نداء يشق العروق يهز المشاش يبعثر قلبي رمادا

أصيل هنا مشعل في الظلال

تعال اشتعل فيه حتى الزوال

جدودي وآبائي الأولون سراب على حدّ جفني تهادى

وبي جذوة من حريق الحياة تريد المحال

وتدعو من القبر أمي بنيّ احتضني فبرد الردى في عروقي

فدفئ عظامي بما قد كسوت ذراعيك والصدر واحم الجراح.

......

باق هو الموت أبقى وأخلد من كل ما في الحياة

فيا قبرها افتح ذراعيك

إني لآت بلا ضجة دون آه.

ها نحن الآن أمام الوعي التراجيدي الفردي بالموت، بل أمام الموت حقيقة وحيدة، لقد تفجرت الشعرية بأجمل صورها، كيف لا وهي النداء الحقيقي الطالع من نفس شفافة أمام مصيرها المحتوم.

في الطريق إلى الموت تغيب كل أشكال الأمل والتفاؤل والكفاح من أجل الحياة. هنا يبدأ اللامعنى، الموت أبقى من كل ما في الحياة، أي احتجاج هذا على العدم الذي يسلب معنى الحياة كلها.

الشاعر الذي امتلأ بحب العراق وبالتالي بحب الحياة، فحب الحياة وحب العراق شيء واحد، يعود إلى الرحم، إلى أمه.

في استحضار الأم الذي تنادي ابنها: بنيّ احتضني تصل الفاجعة إلى أعلى درجاتها. إنه ذاهب لاحتضان أمه لكنه سائر إليها كي تحتضنه. العودة إلى أم في قبرها انفجار اللاوعي في حب الأم المطلق. كثيرون صاحوا به تعال لكنه لن يذهب إلى قبر أحد من جدوده وآبائه الأولين، بل إلى قبر أمه.

أي نداء عميق صادق مؤثر: فيا قبرها افتح ذراعيك إني لآت. وفي لحظة ما قبل الموت لا يجد إلا الأم، في قبرها ستؤنس وحشته، أتراه كان خائفا من وحشة القبر؟ من يدري؟

والحق إن الأم، أم السياب، حضرت حضورا شديدا في شعره، وكانت دائما معبرة عن الفاجعة التي يعيشها.

يجب أن نحذر من إطلاق حكم ما على الشاعر بناء على تجربة قصيرة أو قصيدة تحريض تخاطب الناس

وكم ناديت في أيام سهدي أو لياليه

أيا أمي تعالي فالمسي ساقي واشفيني.

......

أماه ليتك لم تغيبي خلف سور من حجار

لا باب فيه كي أدق ولا نوافذ في الجدار

في سفر أيوب حيث الشاعر هو أيوب وحيث اليأس قد وصل ذروته اعتراف الشاعر بالعدم الآتي. وعودة الشاعر بعد.

تجربة الحياة المليئة بالحياة إلى حضن الإله، كأن النهايات كمحطة أخيرة تقود إلى الخوف من الموت ومن ما بعد الموت:

لقد استسلم الشاعر أخيرا

لك الحمد مهما استطال البلاء

ومهما استبدّ الألم

لك الحمد إن الرزايا عطاء

وإن المصيبات بعض الكرم

ربما كانت فكرة الموت التي عاشها السياب قد وضعته في عالم الفراق المعيش والحتمي وعلائم التشبث في الوجود الحي

......

أشدّ جراحي وأهتف

بالعائدين

ألا فانظروا واحسدوني

فهذي هدايا حبيبي.

لماذا اختار الشاعر أن يعبر عن يأسه واستسلامه أيوبا. إن في هذه الاستعارة عودة إلى الراسب في النفس، إلى البنية النائمة التي سرعان ما استيقظت، عودة إلى الحبيب، الإله.

لم يعد الشاعر يتأفف من المرض والموت وقد وصل حدّ العودة إلى الإله الذي أكرم عليه بالألم، هدايا حبيبه، إنه بلفظ حبيبي وصل حدّ المتصوف.

في هذه اللحظة من اليأس والاستسلام يغدو الشعري وداعا. وداعا في لحظة ضعف إنساني لا يجد أمامه إلا مناجاة الإله.

كاتب وأكاديمي من فلسطين مقيم في الإمارات

15