مدينة بلا ثقافة

الثلاثاء 2014/12/23
بيروت "تجتر" ثقافتها المحلية ولا تهضم الماضي

قد تكون بيروت من المدن النادرة، التي عاشت دمارات عديدة في تاريخها، ومرت بالعديد من الكوارث والزلازل والحروب منذ الميلاد وقبله، إلى يومنا هذا، ومع ذلك كانت المدينة تخرج كطائر الفينيق لتعيد ترميم روحها، وتستأنف حياتها، وتـرسم معـالم وجودها من جــديد، ولم يكن ما فعله “تريفون” حين دمر بيروت، أقــل دموية مما فعلـــه آل الأسد طوال ربع قرن من احتلالهم للمدينة، ومحــاولة إلغاء دورها الحضاري والثقافي في العالم.

ولكن كيف يبدو المشهد الثقافي في المدينة اليوم، حيث التحوّلات السياسية تعصف بالمحيط، مدمرة الصورة النمطية التي عاشها لبنان بعد حرب فلسطين، وما تلاها من حروب عربية إسرائيلية كانت بيروت المستفيدة منها على المستوى الاقتصادي والثقافي، وتحوّلت على إثرها إلى مقر إقامة المثقف العربي أو منفاه الاختياري أو مكان تهجيره، لما شكلته من هامش كبير للحرية والإبداع والانفتاح على الغرب.

جميع التيارات الثقافية التي أنتجتها المدينة جاءت ضمن مفهوم الحضور الثقافي العربي، إلى جانب المفاهيم اللبنانية المتأثرة بالثقافة الغربية، والتي شكلت تفاعلا حقيقيا وساهمت في إطلاق ثقافة عربية حديثة، كانت بيروت مركز ثقلها.

وبفعل الحرب اللبنانية، والخروج الفلسطيني، وهيمنة النظام السوري، وهجرة المثقف اللبناني ورحيل المثقف العربي، بدأت المدينة تفقد جوهر وجودها ومعناها في أن تكون منبرا للحرية، وعلى الرغم من أن لبنان شهد فصولا متعددة من الحروب التي لم تصل إلى حدود الثورة أو “الربيع” بمفهومه العربي الذي أصبح متعارفا عليه. إلا أنه لم ينتج ثقافة بمستوى الحدث الدموي الذي عاصرته المدينة منذ السبعينات.

بيروت كانت مقرا للمثقف ولم تصنع ثقافتها في أبعادها التغييرية. وكانت الثورة السورية، وما أنتجه من خلل في موازين القوى لصالح القوى الدينية المتطرفة، ودخول إيران بقوة إلى الساحة اللبنانية، حاملة أيديولوجيتها، وثقافتها التي لم تجد إقبالا إلا ضمن الطائفة الشيعية، وبعض القوى المسيحية المنحازة إلى جانب النظام السوري، لقد بدأ هامش الحرية يتقلص أكثر ويتخذ شكلا انعزاليا.

وفكرة بيروت تصنع الكتاب، والعرب يقرؤوه بدأت بدورها تضمحل، وعلى الرغم من عدم تأثر منسوب الحرية على المستوى الرسمي نجد أنفسنا أمام غياب كامل لظواهر أو تيارات ثقافية فاعلة أو مؤثرة على مستوى الأسماء الجديدة، أو بروز أسماء شابة تحمل رؤى حديثة.

مع غياب الأحزاب العلمانية التي تميزت بها بيروت وأنتجت من خلالها ثقافة متحررة من قيود الطوائف، تعيش المدينة أزمة قلق ووجود

بيروت “تجتر” ثقافتها المحلية، ولا تهضم الماضي، بل تعيش حالة عدائية تجاه ماضيها العربي الثقافي. أو تبحث في إلغاء هذا الماضي، فالمثقف اللبناني بدأ يفقد “انفتاحه العربي” إلا ضمن مصالحه الفردية، وتحوّل إلى التقوقع داخل منظومته المذهبية، مؤسسا لثقافة على مستوى انتصاراته “الإلهية” والسياسية.

مع غياب الأحزاب العلمانية التي تميزت بها بيروت وأنتجت من خلالها ثقافة متحررة من قيود الطوائف، تعيش المدينة أزمة “قلق ووجود” وترقب دائم في هذه المرحلة، ويعيش المثقف اللبناني فيها سلسلة من الخيبات تجاه الحاضر، وموقفا سلبيا تجاه المستقبل.

أما الصحافة الثقافية التي شكلت بدورها أحد منابر بيروت الإبداعية، فهي بدورها تمرّ بحالة من التمزق نتيجة لانعكاسات المواقف السياسية والمذهبية، ولم يعد في الساحة سوى بعض الأسماء القليلة التي تتمتع بمصداقية نقدية، خارج إطار المفاهيم المذهبية السائدة.

بعلبك المدينة الشهيرة بانفتاحها وتنوّعها الثقافي وبمهرجاناتها الدولية التي استقطبت أعمالا عالمية، وتردّدت فيها أصوات المغنين العالميين كأم كلثوم ومغنية الجاز جون باز، وشهدت أعمال موريس بيجار وأراغون، دخلت هي أيضا مرحلة التطبيع الإيراني، لتعيش حالة مناقضة لهويتها العالمية، ولتقدم أناشيد المرشد الأعلى، أو بعض الأعمال الفنية المحلية.

بيروت اليوم بلا هوية ولا رئيس، وبلا ثقافة، مدينة تتآكل، ووجودنا بها أيضا بلا علاقة.

15