الجبهة الشعبية التونسية: تدوير الزوايا

السبت 2014/12/13

بعد تأخر بدا لبعض المراقبين ضربا من التردد، أصدرت الجبهة الشعبية في تونس موقفها النهائي من الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية، المزمع تنظيمها في الحادي والعشرين من الشهر الجاري. موقف دعا “عموم الشعب التونسي إلى قطع الطريق أمام عودة المرشح الفعلي لحركة النهضة وحلفائها، محمد منصف المرزوقي، إلى رئاسة الجمهوريّة”.

يجدر التذكير بأن الجبهة الشعبية التونسية، التي تمثل ائتلافا من مجموعة أحزاب يسارية وقومية فضلا عن بعض الشخصيات الوطنية، توصلت إلى الحصول في الانتخابات التشريعية على 15 مقعدا، أي أنها تمثل وزنا سياسيا ونيابيا معتبرا في مجلس نواب الشعب الجديد، وفي المشهد السياسي التونسي. يضاف إلى ذلك أن مرشح الجبهة للانتخابات الرئاسية (حمة الهمامي) حلّ ثالثا بعد الباجي قايد السبسي (عن نداء تونس) ومحمد منصف المرزوقي (مرشح مستقل ومستقيل من المؤتمر من أجل الجمهورية).

هذه الإحداثيات السياسية الجديدة، مجتمعة فضلا عن حالة الاستقطاب السياسي الحاد التي هيمنت على البلاد منذ إطلاق الحملة الانتخابية للدورة الأولى، جعلت موقف الجبهة من الانتخابات الرئاسية، محددا أو لنقل أنه مهم في الانتصار لهذا المرشح الرئاسي أو ذاك.

عزز حالة “انتظار” موقف الجبهة، البيان الذي أصدره مجلس شورى حركة النهضة الأحد الماضي والذي قرر “مواصلة اعتماد الموقف الذي اتخذته الحركة في الدور الأول والذي دعت فيه أبناءها وعموم الناخبين إلى انتخاب المرشّح الذي يرونه مناسبا لإنجاح التجربة الديمقراطية”.

وما أضفى أيضا على موقف الجبهة الشعبية مزيدا من الأهمية، هو الحراك الداخلي الذي كان يعتمل طيلة أسابيع داخل هياكلها وبين قواعدها، وكان الجدل حادا ومنقسما بين رؤيتين للحدث وللمنتظر من الجبهة؛ شق أول ينادي بالاصطفاف مع مرشح نداء تونس الباجي قايد السبسي، ضد منصف المرزوقي، باعتبار أن الثاني يمثل خطرا على الدولة المدنية التونسية وتهديدا واضحا لمكاسبها، وشق ثان يعتبر أن المرشحين يمثلان وجهين لعملة واحدة، وأنه لا فرق في التصورات الاقتصادية والاجتماعية بينهما، وإذا كان المرزوقي يرمز لارتباطات إقليمية إخوانية مركبة، فإن السبسي يمثل رجع صدى للنظام القديم وامتدادا له.

الجدل الحاد داخل البيت الجبهوي، والذي وصل مداه (في بعض السجالات) إلى استدعاء الأدبيات الأيديولوجية الماركسية القديمة، علّل التأخر في إصدار الموقف، وفسر أيضا الصيغة التي صدر بها البيان.

البيان المؤلف من خمس نقاط كان أقرب إلى درس في العلوم السياسية منه إلى صيغة البيانات السياسية المعتادة التي تصدرها الأحزاب في مثل هذه اللحظات الحارقة.

خطورة اللحظة، والوعي بأن الموقف الذي ستصدره الجبهة قد يودي بها إلى منحدر سحيق (مع قواعدها كما عند خصومها)، فضلا عن الآراء المختلفة لمكوناتها، حتّم على مجلس أمناء الجبهة وقياداتها الاشتغال طويلا وبحذر وتؤدة على إخراج الموقف وحتى على طريقة صياغته.

كان المفصل الأول من البيان داعيا إلى “مواصلة التجند لفرض الشروط اللازمة لإجراء الانتخابات”، والثاني مناديا بالمشاركة المكثفة في الانتخابات، وهي دعوات تتصل أساسا بخلق مناخ سياسي سوي يسمح بإجراء انتخابات تليق بثورة وتؤسس لغد سياسي يبدد عقود التشدق بالديمقراطية في كل المراحل السابقة (البورقيبية والنوفمبرية وصولا إلى الترويكا).

ولكن بيت القصيد في الموقف أو البيان كان -كما أشرنا إلى ذلك- دعوة الشعب التونسي إلى “قطع الطريق أمام عودة المرشح الفعلي لحركة النهضة وحلفائها، السيّد محمد منصف المرزوقي، إلى رئاسة الجمهوريّة، بعد أن اكتوت تونس وشعبها زمن حكمه بنار الاغتيالات السياسية…”، وكذلك “الأخذ على محمل الجد إمكانية عودة منظومة الاستبداد والفساد القديمة بآليّات وطرق وتحالفات جديدة معادية لمطالب الثورة في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، خاصة أن مرشح نداء تونس، الباجي قايد السبسي، لم يوضح بعد مشروع حكمه في ما يتصل بعلاقته بحركة النهضة وإمكانية إشراكها في الحكم”.

هنا كانت الجبهة “توفيقية” بين اختلافات مكوناتها، وكان الموقف واضحا في ما يتصل بالمرزوقي، منددا بغياب وضوح الرؤية لدى الباجي في ما يتعلق بالعلاقة -تحديدا- بالنهضة. في البيان تمايز واضح وأساسي مع حركة النهضة الإخوانية، ففي الموقف من المرزوقي، كان القول نابعا من اعتباره “المرشح الفعلي لحركة النهضة وحلفائها”، والتنديد بالتباس موقف الباجي قايد السبسي كان منطلقا من إمكانية إشراكه النهضة في الحكم.

أكد المفصل الخامس والأخير في البيان من هذا التصور، إذ دعا “الأحزاب الديمقراطية والتقدمية والقوى المدنية والاجتماعية إلى الالتقاء مع الجبهة الشعبية حول فضاء يؤمّن قطع الطريق أمام عودة المشروع “الإخواني” الرجعي إلى الحكم”، وحذر كذلك من “قيام أي استقطاب ثنائي يستهدف إجهاض الثورة والالتفاف على مطالب الشعب التونسي في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والتقدم”، وكأن القول يستحضر الغزل الهامس بين النهضة والنداء، والذي أكدته بعض التسريبات.

الضجة التي أثارها صدور موقف الجبهة الشعبية أول أمس الخميس، والتي لم تقتصر على أنصارها وقواعدها، (اعتبر بعضهم أن البيان يمثل “نصف موقف” أو “وقوف على الربوة”)، بل امتدت إلى خصومها؛ (أنصار المرزوقي والنهضة نددوا بما أسموه “تحالف اليسار الاستئصالي مع رموز التجمع”)، في حين اعتبر أنصار النداء البيان كافيا، طالما أنه وفر المهم “قطع الطريق أمام منصف المرزوقي”.

أما قيادات الجبهة ذاتها فقد ذادت عن موقفها واعتبرت أنها كانت تتحرك داخل فضاء العقلانية السياسية، وأن إقصاء منصف المرزوقي من الحسابات السياسية -لأسباب موضوعية تم إيرادها- لا يعني ضرورة ترشيح السبسي المطالب بحسم تحالفاته المستقبلية وتوضيح العلاقة -تحديدا- بالنهضة. موقف الجبهة الشعبية كان مأزقا سياسيا وأيديوليوجيا حادا ينبع من الوضع الذي أنتجه وصول السبسي والمرزوقي إلى الدور الثاني، بما يعنيه ذلك للجبهة من ضرورة تحديد موقفها من المرشحين (بما يمثله كل مرشح) ومن العملية برمتها بما قد تفرزه مستقبلا من أوضاع.

الجبهة الشعبية اضطرت إلى “تدوير زوايا” المشهد، أي أنها لم تكن حادة كما نادت بذلك بعض قJواعدها وقياداتها، بل حسمت مع مرشح، وأرجعت الكرة إلى الثاني بأن طالبته بأن يحسم بدوره. لكن بعض القراءات الماكرة أشارت إلى أن موقف الجبهة غير مكتمل وأنه احتJوى “فراغا” يمكن ملؤه بمجرد إيفاء نداء تونس إلى تعهدات تضمنها بيان أول أمس الخميس. نخلص إلى أن الجبهة اختارت توديع “الأيديولوجيا” ودخلت فضاء السياسة بما تعنيه من حسابات تأخذ في الاعتبار التوازنات الداخلية والإقليمية، ولم تستند في موقفها إلى الدروس القديمة.

الجبهة الشعبية قررت موقفها بناء على تقدير للمخاطر التي قد تحدق بالبلاد إن اعتلى سدة الرئاسة مرشح ينهل من معين إسلامي، ومع ذلك عدّ البيان «كاثوليكيا» عند البعض، و»نصف موقف» عند البعض الآخر وذلك حسب المصالح والانتظارات.


كاتب صحفي تونسي

9