الاستبداد الشرقي

السبت 2014/12/13

أتيح لي مؤخرا أن أقرأ كتاب “أصول النظام السياسي” لـفرانسيس مؤلف “نهاية التاريخ” المثير للجدل. وكان أبرز ما استوقفني في الكتاب ذلك الإلحاح اللافت على دور “المجتمع المدني” الذي احتل موقفا مركزيا على صعيد الاحتفاء المباشر والموارب بهذا المصطلح الذي يومئ إلى حالة من حالات التمدّن، فضلا عن أنه يشير إلى التعارض القائم بين النظام الديمقراطي في المغرب وبين الاستبداد الشرقي، النظام الذي مازال سائدا في العـــالمين العربي والإسلامي.

ولكن ما معنى هذا المفهوم؟ يمكن إجمال معناه بالقول إن غياب المجتمع المدني يعني وجود الدولة الشمولية بقضّها وقضيضها، الدولة التي لا يقابلها وجود مجتمع مكمّل لها ومحفز على نشاط المؤسسات والأفراد.

وكما هو معروف فإن مفهوم المجتمع المدنيّ يقع في الصميم من نظرية الحكم المعتمدة في التاريخ الغربي. كما أنه يُطرح من قبل بعض الفلاسفة وعلماء الاجتماع باعتباره الفيصل أو المعيار القيميّ الفاصل بين الشرق والغرب.

فالشرق كما يراه هيغل في كتابه “فلسفة التاريخ” الصادر في عام 1837، نقيض كامل للغرب، وبالتالي فإنه يتسم بـ: “اللاعقلانية والطفولية، والاستبداد، والأنثوية، والتخلق، والقوة، والبربرية”. وغنيّ عن القول إن تجربتي الصين والهند اللتين اعتمدهما هيغل في جوهر نظرته التمييزية بين الشرق والغرب، وقد برهن على خطليهما التقدّم الهائل الذي لم يقتصر على ما حققتاه من تطوّر اقتصادي، بل على بروز فعاليات المجتمع المدني فيهما ونموّهما المطرد وذلك على الرغم من اختلاف نظامي الحكم في البلدين ومما يشوب الحضارتين من قصور.

وفي إطار نشوء فكرة “المجتمع المدني” تجدر الإشارة إلى كتاب “رسائل فارسية” الذي كرّسه مؤلفه مونتسكيو بتقديم نظرة انتقادية حادّة للمجتمع الفرنسي. وقد نسب المفكر الفرنسي الشهير هذه النظرة إلى عيون شرقية، سرد من خلالها فكرة الإنسانية التي تؤكد على فكرة المساواة بين البشر الذين يستحقون أن ينعموا بمنجزات الحضارة الحديثة دون تمييز. وبعبارة أخرى فإن فكرة المواطنة، إحدى ثمار المجتمع المدني، هي في حقيقتها فعالية ديناميكية تمثل ثقلا موازيا للدولة، فعالية تضمن حرية التعبير وتعتبرها جزءا من حقوق الإنسان.

كتاب مونتسكيو يذكرني بكتاب أديب إيرلندي قرأته لدى دراستي للأدب الأنكليزي، وعنوان الكتاب الصادر في عام 1762 “المواطن العالمي” وهو من تأليف أوليفر غولد سميث، وقد صيغ على شكل رسائل موجهة من المؤلف إلى أصدقائه في الشرق. وهي تتيح لفيلسوف شرقي اسمه ليين تشي ألتنجي، ولا وجود له في الواقع، بل هو شخصية خيالية، فرصة التعمق في دواخل المجتمع المدني في أنكلترا، ورصد واكتشاف خصائصه النفسية وعاداته وتقاليده، وبالتالي تقديم وصف انتقادي تفصيلي له من خلال ما يراه بأمّ عينيه من سلبيات قطبي الرحى في هذا المجتمع: الكنيسة والحكومة.

ما أريد أن أحيل إليه في هذه الإشارات أن الاستشراق أو بعضه -لكي نكون منصفين- يؤكد على غياب مفهوم المجتمع المدني في المجتمعات الشرقية. وهو يدلل على ذلك بالزعم أن هذا الغياب يتتبعه غياب الفرد مستقل الإرادة، والممارس لحكم الضمير الفردي وبالتالي القادر على الاعتراض على تدخل الدولة واستعبادها.

وقد أوردت مثالي مونتسكيو وغولد سميث لأبيّن أن الرأي الاستشراقي الشائع والذي يعود بأصوله إلى مفهوم الاستبداد الشرقي لدى هيغل ليس صحيحا. ولكن ما يحدث في بلدي سوريا وأخواتها يعزي المرء بإعادة النظر: الاستبداد الشرقي كينونة عَصيّة على التغيير.


ناقد من سوريا مقيم في لندن

16