جان دوست يكتب التراجيديا السورية في "دم على المئذنة"

بأسلوب روائي شيق ومثير استطاع الروائي الكردي السوري جان دوست أن يحمل الحدث المأساوي الذي جرت وقائعه في مدينة عامودا الجريحة (27 يونيو عام 2013) إلى صدر صفحات أدبية تضيء على هذا الحدث بصورة شبه بانورامية واستطاع أن يواكب هذا الحدث في روايته “دم على المئذنة”، الصادرة عن دار “مقام للنشر والتوزيع”.
يدخل جان دوست في تلافيف الأزمة الأيديولوجية الكردية، ويتقمص شخصية الراوي صالح لسرد الرواية، ولعلها نادرة تلك الروايات التي تنطلق من الحدث المباشر لتخيط نسيجا أدبيا على شكل رواية أشبه ما تكون بالواقع الحقيقي والعياني الملموس.
في صفحات تمهيدية للرواية يكتب جان دوست عن المخاض الأشدّ إيلاما، قبل أن يولد المولود الجديد والجميل، وهو روايته “دم على المئذنة” وقد أحسن اختيار هذه المقدمة التمهيدية، إذ عنونها بـ”عتبة الحيرة” حين وصل أخيرا إلى لحظة ولادة العمل الإبداعي بعد عدة مخاضات ومكابدات ومغالبات متتالية.
لحظة المأساة
يتحدّث الفصل الأول “إصبع الربّ الجريحة” عن لحظة المأساة باختيار المئذنة كبؤرة رئيسية للرواية لتدور كل أحداثها حولها «استفاق أهل عامودا، البلدة الكردية السورية الصغيرة المرمية بقياس هندسي دقيق جنوب حرائق التاريخ بفرسخين والمتكئة بحزن على وسادة محشوة بقهقهة الجغرافيا، صباح آخر جمعة من يونيو 2013، على مشهد مرعب لم يروا مثله من قبل.
نقد سياسي لاذع بمضمون أدبي للممارسة الأيديولوجية القاسية لحزب سياسي كردي يقيم علاقة أمنية مع النظام السوري
كانت مئذنة المسجد الكبير تقطر دما من كوى متطاولة صغيرة بدت كجراح نبتت للتوّ في تلك القامة الرشيقة التي كان صوت الأذان المنسرب منها فيما مضى، يسكب الطمأنينة في قلوب المؤمنين كما في قلوب صعاليك البلدة ومربيها ومجاذيبها وشعرائها الكسالى والنزقين، وحتى حمامها الذي كان غائبا تماما عن المشهد الدامي صباح ذلك اليوم الحزيراني.
تحلق الناس أسفل المئذنة وقد أعاد هول ما رأوه خلق ملامحهم على هواه؛ كانت كل الوجوه متجهة إلى أعلى ترنو إلى الدم البهيّ سائلا على الجدران الصفراء الباهتة للمئذنة التي يعلوها هلال فضي مفتوح صوب السماء الخرساء كفم ينذر بكارثة».
رمز الثورة
بذكاء روائي رفيع يختار المؤلف الجامع -وبالتحديد المئذنة- الذي كان رمزا للثورة السورية، الجامع الذي كانت منه تنطلق جموع المحتجين على النظام السوري في كل أرجاء سوريا في عام 2011 وحتى أواخر عام 2012، إذ كان الناشطون العلمانيون والليبراليون ينتظرون خروج الناس الذين يتوافدون على الجامع كحالة إيمانية متجسدة في الذهاب إلى الجامع يوم الجمعة ليلتئم شملهم جميعا، كتعبير عن تضامن احتجاجي شامل لكل ألوان الطيف السوري الديني والعلماني، للتعبير والانخراط في ثورة العزة والكرامة السورية ضدّ دكتاتور قابع في قصره الممانع بدمشق.
|
الرواية نقد سياسي لاذع بمضمون أدبي للممارسة الأيديولوجية القاسية والعنيدة لحزب سياسي كردي له امتداداته الإقليمية ويقيم علاقة أمنية مع النظام السوري، وهو لا يزال يسيطر على الساحة الكردية في مناطق الغالبية الكردية بسوريا، عبر حدث 27 حزيران 2013 ، عندما منعت السلطات الكردية المحلية التظاهر، وجرى ضرب هذا التظاهر السلمي.
كما وقع تخريب خيم الاعتصام، والاعتداء على مكاتب أحد الأحزاب الكردية، بعد أن كانت تتهم نشطاء كرد مناهضين للحزب بتعاطي الحشيش، الأمر الذي استدعى الاحتجاج والاعتصام والتظاهر، فجرى ما جرى من قتل لكوكبة رائعة من خيرة الشباب الكردي الناشط والبريء والمسالم: أراس بنكو، نادر خلو، برزاني قرنو، شيخموس علي حسن، علي رندي، عبدالخالق محمود.
يتحدث جان دوست من خلال الراوي صالح عن عدة أحداث تاريخية مؤلمة «لتتضافر مع الحدث المعاصر والاشتراك في نقطة الألم لنفس المدينة ونفس السكان» ألمّت بعامودا، كالممارسة الفرنسية تجاه هذه المدينة، إذ كان الظلم عنوان الانتداب الفرنسي لسوريا، وسينما عامودا التي راح فيها عدد كبير من أطفالها عندما احترقت بهم، فكانت أجسادهم الغضة وهي تشوى بنار هذا الحريق مثار ألم كبير لأهلها الذين ذهلوا لهذا الحدث المأساوي.
ويلجأ الروائي إلى تقنية روائية ذكية وهي “الخطف خلفا” والترميز من خلال الماضي إلى ما يجري راهنا، وذلك عندما يذكر في أحد فصول الرواية أن غرابا قد حط على مئذنة الجامع يوم 16 نوفمبر من عام 1970 في مشهد غير مسبوق، ويتحدّث عن استغراب الناس، وانتشار خبر هذا الغراب في كل ربوع سوريا، وهذه إشارة قوية إلى أن مجيء حافظ الأسد إلى الحكم في سوريا عبر انقلاب عسكري هو نذير شؤم، دفع الشعب السوري تجاهه ثمنا غاليا وتكبّد خسارة فادحة، ومنها ما حدث في اليوم الحزيراني العامودي المؤلم. وبصورة تنبّئية استباقية ملفتة يربط الروائي مأساة عامودا بمأساة كوباني من خلال انتمائه العائلي إلى المدينتين، ويتجلى ذلك من خلال انتقال السرد الروائي بين المدينتين.