حرب العراق وطموح الصين يحصدان الجوائز القومية للكتاب بأميركا

حصل الجندي المتقاعد من البحرية الأميركية “فيل كلاي” على أرفع جائزة أميركية مخصصة للأدب، بفوزه بالجائزة الوطنية للكتاب في فرع القصة القصيرة، عن مجموعته الأولى التي تتناول قصصها الجنود في نضالهم من أجل تقبل الخراب والفوضى في حرب العراق، وترصد تجربة فيل كلاي الشخصية مع الحرب، بما فيها من رعب وضجر وطرافة في بعض الأحيان.
“لا يسعني أن أفكر في حوار أهم من هذا الحوار، فالحرب أغرب من أن يتدبرها المرء بمفرده”. لم أسمع من قبل ما هو أبلغ من تلك الجملة التي تردّد صداها على خشبة تشيبرياني وول ستريت أثناء تسلم قائلها الجائزة القومية للكتاب، جائزة أميركية عريقة يمتدّ تاريخها على مدى 60 عاما.
قالها القاص الأميركي فيل كلاي أمام سبعمئة من الحضور وهو يتقبل الجائزة المقدّمة من مؤسسة الكتاب القومي عن مجموعته القصصية “إعادة نشر الجند” التي احتلت وفقا لجريدة “نيويورك تايمز” قائمة أفضل الكتب مبيعا في هذا العام، وانتزعت الجائزة من كتب تباينت مواضيعها وأسلوبها الأدبي، من بينها رواية “امرأة لا لزوم لها” للكاتب اللبناني ربيع علم الدين.
فاز كتاب “عصر الطموح: السعي إلى الثروة والحقيقة والإيمان في الصين الجديدة” لإيفان أوزنوس، أحد كُتاب مجلة “ذي نيويوركر”، بالجائزة عن فئة الكتاب غير القصصي. يفكك الكتاب عملية التحوّل الحثيث الذي شهدته الصين في سبيل أن تصبح قوة اقتصادية عظمى، والصدام بين تطورها الرأسمالي وإجراءات صارمة يفرضها نظامها السلطوي لخنق أية حرية سياسية واجتماعية.
وفي خطابه الموجز إلى الحضور، شكر أوزنوس المتعاونين معه من الصينيين لأنهم خاطروا برزقهم، بل وبأرواحهم، من أجل إنجاز كتابه، “إنهم يعيشون في مكان على غاية من الخطورة حين يتحلى فيه الإنسان بالصدق”.
|
كما فازت السيرة الذاتية الشعرية “فتاة سمراء تحلم” لجاكلين ودسِن في فئة أدب البالغين. وتروي فيها نشأتها كفتاة من أصول أفريقية في ولاية ساوث كارولينا ونيويورك خلال الستينات والسبعينات. وفي فئة الشعر فازت لويز جلوك عن ديوان “ليلة مخلِصة وعفيفة” المرشح أيضا لجائزتي “فوروارد” و”تي إس إليوت”.
ونالت ملكة الفانتازيا والخيال العلمي أورسولا كيه لو جوين “ميدالية المساهمة البارزة في الآداب الأميركية”. لقد امتدّ مشوار لو جوين على نحو أربعين عاما، أصدرت خلالها أحد عشر كتابا للأطفال وما يربو على عشرين رواية وعددا من الدواوين والتراجم والمجموعات القصصية.
وحين تلقت ميداليتها، انتهزت الفرصة حتى تصبّ غضبها بلسان لافح على المجتمع الأدبي بسبب إقصاء الخيال العلمي والفانتازيا عن الجوائز، كما لامت الكُتاب على خضوعهم لضغوط الناشرين من أجل إصدار كتب تدرّ أموالا أكثر، “لقد عشتُ مسيرة مهنية طويلة وناجحة، وهنا في نهايتها، لا أريد حقا أن أشهد خيانة الأدب الأميركي.”
صوت كالعاصفة
يسرد فيل كلاي اثنتي عشرة قصة بصوت أشبه بالعاصفة الجديرة بموضوعه، حرب العراق وعواقبها. لا يبخل علينا بأية تفاصيل، يتتبع دوريات عسكرية مروعة لا ينقصها العبث، يروي لنا إحساس الجندي العائد إلى وطنه ومحاولاته المستميتة المذنبة للتأقلم مع الحياة المنزلية في الضواحي الآمنة، يحيط به أناس، “لا يعلمون موقع الفلوجة على الخريطة حيث مات ثلاثة أفراد من فصيلتك”.
لا يتكل كلاي على الملحوظات المبتذلة أو الرجولة الحربية أو حتى الشعارات الوطنية، شعارات مجوّفة ترمي الأشلاء في كل اتجاه، وإنما يفند اعتقادات قد تبدو راسخة في أذهان الغرب عن الشرق الأوسط، يحللها بدون توسّل الدموع منا أو الاعتماد على استفزاز العواطف التافهة.
تغوص قصصه بشجاعة وعناد في واقع الحرب خلال القرن الواحد والعشرين وآثار الرعب والسأم التي تنزل بالمقاتلين في الصفوف الأمامية. كان كلاي قد خدم جنديا في محافظة الأنبار العراقية عام 2007، واستنادا إلى حقائق خبرها بعين المشاهد يسلط عينين مصدومتين على حربي العراق وأفغانستان ليتمكن في النهاية من إسباغ شيء من العقل على أحداث لاعقلانية.
"عصر الطموح: السعي إلى الثروة والحقيقة والإيمان في الصين الجديدة" لإيفان أوزنوس، فاز بجائزة "الكتاب غير القصصي"
تستوقفنا قصة “إعادة نشر الجند” بوصفها المقابل للشرق أوسطي لقصة “الأشياء التي حملوها” للكاتب الأميركي تيم أوبراين عن حرب فيتنام. وفيها يقتل جندي كلابا تأكل الجثث، لا نعلم تمام العلم إن كان يلهو أم أنه اضطرّ إلى الفعلة لقسوة المنظر، ربما ينطوي داخل صدره الدافعان.
كان كلاي قد أفضى إلى الحضور وهو يتسلم الجائزة أن الآخرين عاملوه وكأنه مضطرب نفسيا عند عودته من الحرب، في حين سأله الأطفال المرة بعد الأخرى، “هل قتلتَ أيّ أحد؟”
تتخلل كل القصص مشاهد حافلة بالوحشية والقتل العبثي، مشاهد تتوازى أحيانا مع مشاعر مفعمة بالإيمان تحل على بعض المقاتلين. يتناهى لدى بعضهم اليأس فيما يتشبث بعضهم بالحياة.
طلقات لغوية
أسلوب كلاي تقليدي، وإنما فعال، تلفي فيه كل ما يمكن توقعه من حرفيّ يجيد القصة المعاصرة. لم يخترع جديدا على مستوى التكنيك، ولكنه وظّف المعلوم خير توظيف، ويظل البطل هو المحارب وقصته، لا الأسلوب. غالبا ما تتصف جمل كلاي بالقصر، تنفعل وتتفجر كما الطلقة، تقول بما تصرح به، وبأشياء أخرى توحي بها.
لا يهدر كلاي اقتضابه في سبيل الاستطراد، كل كلمة مقصودة ولها هدف، وفي الوقت ذاته لا يتوخّى غموضا، فلا غموض في الحرب، فالغموض ينمّ عن المداراة، وغايته هي تعرية الوهم. لا يهاب القارئ، ولا يدّعي أبطاله -وما هم بأبطال إغريقيين، فقط جيرانك أو معارفك- ما لا يعلمونه، فقط يحكون ما يعيشونه.
وعلى العكس من شخصيات تعاني الريبة والتململ، تَنعم مجموعة كلاي الأولى بثقة كبار الكتاب، تصف الأديبة الأميركية روكسانا روبنسون قلمه بأنه “يزخر بكل أنواع السُلطات، سلطة أدبية، سلطة عسكرية، وأخرى إنسانية خالصة”.