"من وجهة نظر الفراشات" معجم شعري لتعريف العالم

عذاب الركابي يمنح معاني جديدة للأطفال والشعراء والطغاة وغيرهم.
الأحد 2025/06/29
إعادة تسمية الأشخاص والأشياء (لوحة للفنان فؤاد حمدي)

يعي الشعراء المعاصرون بشكل جذري أن الشعر في جوهره هو إعادة تعريف للعالم والإنسان، لعل من خلال ذلك يستطيعون حماية الإنسانية من فراغ المعنى والخواء والفناء البارد في عجلة الاستهلاك والصراعات والانبتات وغيره مما يهدد الإنسان. الشاعر العراقي عذاب الركابي اختار توجها شجاعا في إعادة تعريف جزء هام من الوجود.

يختلف مفهوم “الكتابة من نقطة الصفر” من كاتب لآخر، فـ”الكتابة من نقطة الصفر” عند نجيب محفوظ، تعني أنه عندما يبدأ الكتابة لا يكون في ذهنه أكثرُ من الرغبة في الكتابة، فلا موضوع ولا مضمون ولا حدث ولا شخصية. وفي هذه الحالة فإن الكلمةَ الأولى هي التي ستؤدي إلى الثانية، فإذا بدأ بكلمة “خرج فلانٌ من بيته..” فالله وحده يعلم بما يأتي بعدها.

أما مفهوم “الكتابة في درجة الصفر” عند رولان بارت، الذي ينقل عنه عند عذاب الركابي، فهي الكتابة “اللاتحديد” و”اللاقواعد” فكل نص يخلق قواعده الخاصة بنفسه. وبالتالي لا شكل للقصيدة، ولا شكل للرواية، ولا شكل للكتابة، فـ”الكتابة رفضُ الكتابة” بتعبير موريس بلانشو.

ومن هنا جاءت نصوص عذاب الركابي في كتابه “من وجهة نظر الفراشات” الذي كتب على غلافه “ديوان”، وكلمة “ديوان” تصرف الذهنَ مباشرة إلى ديوان الشعر، ففي مجال الكتابة نحن لا نصف الرواية، أو المجموعات القصصية أو المسرحيات – حتى لو كانت مسرحيات شعرية – بأنها “ديوان”. الديوان هو ديوان الشعر. ونتذكر مقولة “الشعر ديوان العرب”، مع أن هناك من يرى أن الروايةَ الآن هي “ديوان العرب.”

أطفال ونساء

احتوى ديوان “من وجهة نظر الفراشات” لعذاب الركابي على 21 نصًّا، يعيد فيه تعريف الأشياء والعلامات من وجهة نظر شعرية أو إبداعية محضة، بعيدًا عن التعريفات المستقرة أو المتداولة أو المتعارف عليها، ومن هنا تأتي شعرية هذه الأوصاف والتعريفات الخبرية التي تخلو من الإنشائية كما أشار د. بهاء حسب الله في دراسته عن الديوان، والتي تفاجئنا بمدلولاتٍ جديدة كامنةٍ فيها، ولكننا لم نحاول النظر إليها بنظرة الشاعر، أو بنظرة الطائر، أو بنظرة الفاحص المدقِّق للمعاني المتوارية خلف الحروف. فالطفولةُ في المعنى الاصطلاحي هي “المرحلة العمرية بين الرضاعة والبلوغ”. ولكنها عند عذاب الركابي هي الحياة في اللازمان.

الطفل في معجم أكسفورد – على سبيل المثال – هو المولود البشريّ حديث الولادة حتى يبلغ سنَّ الرشد، وينطبقُ ذلك على الذكر والأنثى، وتُدعى المرحلة التي يعيشها الطّفلُ، مرحلة الطفولة. والطفل في اللغة العربية هو “الموْلُودُ ما دامَ نَاعِمًا رَخْصًا”. وفي المعجم الوسيط “الطِّفْلُ الولدُ حتى البُلُوغ، وهو للمفرد المذكر”. وفي القاموس المحيط “َقَدْ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْجَمْعُ”. وفي لسان العرب، الطِفْلُ: الصَّغيرُ من كلِّ شيءٍ، أو المَوْلودُ. وفي القرآن الكريم “وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم” (سورة النور، الآية 59).

الكتاب يعيد تعريف الأشياء والعلامات من وجهة نظر شعرية أو إبداعية بعيدا عن التعريفات المستقرة أو المتداولة

أما عند عذاب الركابي فالأطفال: يخزنون أمانيَّهم في قرص الشمس، ويلعبون بمشاعر الوقت في اللامكان. يمازحون نهارًا القمر.

والأطفال عند الركابي لهم رأي ورديٌّ في العالم، من دون أن يغادروا رحم البراءة أبدا. هم كتابُ فرحٍ وألفةٍ بنفسجيّ السطور.

ولعلنا نتساءل: لماذا هذا الكتاب بنفسجي السطور، لماذا “البنفسج” وليس لونًا آخر؟

تدلنا موسوعة ويكيبيديا الحرة أن “البنفسجي” هو لون الاعتدال، ينتج عن كميات متساوية من اللونين الأحمر والأزرق. ويعتبر هذا اللون رمزًا للوضوح، ونفاذ البصيرة والعمل العاقل والتوازن بين الأرض والسماء، هو لون الحواس والروح والشغف والذكاء والحب والحكمة.

ولعل أطفال عذاب الركابي – في هذا النص – يمتلكون كل هذا الصفات التي يمتلكها اللون البنفسجي. هذا هو التعريف الشعري للطفل والطفولة والأطفال عند شاعرنا. فهل تجرؤ معاجمُنا وموسوعاتُنا وقواميسُنا الورقية والإلكترونية على إدراج مثل هذا التعريف في صفحاتها؟

أما “النساء” فهنَّ صوت الأنوثة عند الركابي، وهنَّ في المعاجم العربية، جمع امرأة (جمع من غير لفظه). وإناث من البشر، خلاف: رِجال. وقيل إن كثرةَ النساءِ وقلَّةَ الرجال علامة على اقتراب الساعة‏.

وعند الركابي: هنَّ هدير الوجود، وقبَّة الحب والشهوة الطاغية لامتلاك كلِّ شيء، ما فوق الأرض، وما في السماء من شموسٍ وأقمار. والماضي والحاضر والآتي رهنُ إشارتِهن. هنَّ كاهناتٌ معبدُهن الحياة.

k

هل يكتفي الركابي بهذا القدر من تعريف النساء؟ لا لم يكتفِ بهذا القدر، ولكنه يضيف في تعريفه للنساء: إنهن ماكنة خلاف، ضد الضد، لا تعرف ما في رؤوسهن المترنحة، وهنَّ في حلفٍ دهريٍّ مع المجهول. ينسِينَ تمامًا، أن تجاعيدَ قلوبهن وراء كل هذه التجاعيد في وجوههنَّ.

وتكررت لفظة “تجاعيد”، تجاعيد القلوب وتجاعيد الوجوه. ويُرجع الشاعر تجاعيد الوجوه إلى تجاعيد القلوب، وهي رؤية صوفية داخلية، معنية بتأثير الداخل على الخارج، أو تأثير الباطن على الظاهر.

وعلى ذلك نستطيع أن نخلص إلى أن كل المظاهر الخارجية التي نراها لدى الإنسان عمومًا، والنساء خصوصًا، تنبع من تأثير الداخل أو الباطن على مظهر الإنسان الخارجي. وأرى أن بيت إيليا أبي ماضي (1889 – 1957) في قصيدته “فلسفة الحياة”: “أَيُّهَذا الشاكي وَما بِكَ داءٌ ** كُن جَميلاً تَرَ الوُجودَ جَميلا.” ينطلق من داخل الإنسان، فإذا كان الإنسانُ جميلا من داخله، سيرى الوجودَ كلَّه جميلا.

ونستعيد بيتًا آخر من قصيدة إيليا أبي ماضي يقول فيه: “وَالَّذي نَفسُهُ بِغَيرِ جَمالٍ ** لا يَرى في الوُجودِ شَيئاً جَميلا”.

إن الشاعر المهجري – الذي عاش في الإسكندرية سنوات عدة يبيع السجائرَ في دكان عمه (1900 – 1911) وفيها أصدر ديوانَه الأول “تذكار الماضي” –  يُرجع الأمرَ إلى النفْسِ، أي إلى الداخل، وهي نظرة صوفية رومانسية فلسفية عميقة.

ونحن نرى أن تجاعيد نساء الركابي تنطلق من تلك الرؤية الصوفية الفلسفية العميقة، فما في الداخل ينطبع على ما في الخارج، ما في النفسِ ينطبع على الوجهِ، وكأن الوجهَ هنا، مرآةٌ تعكس ما في أعماقِها.

إن تجاعيد الداخل ربما تكون أشد قسوة وأكثر إيلامًا، وربما أشد وضوحًا وكثافةً، من تجاعيد الخارج. التجاعيد الخارجية عادة ما تظهر نتيجة الشيخوخة، أو نقص الماء في الجسم، أو أضرار أشعة الشمس، والتدخين، وغير ذلك من العوامل المختلفة التي من الممكن علاجُها. أما التجاعيد الداخلية فهي تأتي نتيجة تراكمات نفسيَّة وتعقيدات روحيَّة يصعب علاجُها سوى بإدخال حالات السرور وعلامات السعادة على النفس البشرية، فيعود الوجه والجسم عموما، إلى شبابه ورونقه ونضارته.

ولكن نساء عذاب الركابي ينسين تماما، أن تجاعيد قلوبهن وراء كل هذه التجاعيد في وجوههن.

الشعراء والروائيون

عذاب الركابي يقدم تعريفات معجمية وتفاعلات وتخريجات وشروحات وتأويلات شعرية وعاطفية وواقعية ورمزية في مناخ تجريبي
عذاب الركابي يقدم تعريفات معجمية وتفاعلات وتخريجات وشروحات وتأويلات شعرية وعاطفية وواقعية ورمزية في مناخ تجريبي

على هذا النحو تمضي نصوص عذاب الركابي في ديوانه “من وجهة نظر الفراشات”، وكأنه معجم تعريفي شعري لبعض الكلمات المتداولة في حياتنا، ومن هذه الكلمات “الشعراء”. وهم الذين قال عنهم المولى عزَّ وجل “وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ”، (سورة الشعراء، الآيات 224 – 226). وهم عند عذاب الركابي: جند النبوءة، مهندسو الحلم الإنساني المتلألئ، مشعوذون وقديسون في آن.

وهم من وجهة نظره: يكتبون وينكتبون، في سعي دؤوب لتجميل الحياة، وتأجيل نهاية العالم. ودائما يضعون أنفسَهم من وجهة نظر الفراشات.

ومن العبارة الأخيرة يبزغ عنوان الديوان “من وجهة نظر الفراشات”، وهي عبارة ستتكرر بعد ذلك ولكن “من وجهة نظر الأنهار والسيول والأمطار.”

إذن الشاعر يكتب من وجهة نظر الطبيعة، وعلاقتها بالشعر، والتي قال عنها أمير الشعراء أحمد شوقي: “إن الشعر ابن أبوين: الطبيعة والتاريخ.” وقد تحقَّق هذا لشوقي. ونرى أن الطبيعة تتجلَّى في نصوص الركابي بعامة، وليس في هذا الديوان فحسب، فالشعراء من وجهة نظر الركابي يصفون أنفسهم من وجهة نظر الفراشات أي من وجهة نظر الطبيعة.

وللفراشات، هذه الكائنات الدقيقة الرقيقة الملوَّنة، دورٌ مهم في حياة الإنسان، فهي تُلقح الزهور، وبدونها لا نستطيع الحصول على ثمار أو بذور بعض المحاصيل. وهناك ما يسمى “أثر الفراشة”، وهي فكرة مفادها أن الأشياء الصغيرة يمكن أن تكون ذات تأثيرات متفاوتة على نظام معقد، وقيل إن رفرفة جناح فراشة في الصين – على سبيل المثال – من الممكن أن يكون لها أثرٌ في أميركا. وأرى أن كلمة الشاعر الصادقة من الممكن أن يكون لها أثرٌ مثل أثر الفراشة، وقد رأينا تأثير بيت أبي القاسم الشابي الذي توفي عام 1934 عن 25 عامًا: “إذا الشعبُ يومًا أراد الحياةَ ** فلا بدَّ أن يستجيبَ القدر”، في ما عرف بثورات الربيع العربي. أو تأثير بيت مثل: “وطني لو شُغِلتُ بالخُلدِ عنّه ** نازعتني إليه في الخُلدِ نَفسي” لأحمد شوقي الذي رحل عام 1932 في ما يعرف الآن بالمواطنة.

نذكر أيضا تأثير بيت إيليا أبي الماضي السابق ذكره، وحضوره حتى تلك اللحظة. هذه ليست أبيات شعر، ولكنها فراشات حية تترك أثرها في الطبيعة والتاريخ.

 إذا كان هذا هو تعريف الشعراء من وجهة نظر الركابي، فما تعريفُه للروائيين؟

نصوص عذاب الركابي في ديوانه "من وجهة نظر الفراشات" تمثل معجما تعريفيا شعريا لبعض المعاني المتداولة

يقول في نص “الروائيون” إنهم: صُنَّاع الحكاية – الحياة، وهي تتناسل حكايات.

يلفتنا هذا الاختلاف في تعريف الشعراء وتعريف الروائيين، فالشعراء هم جُند النبوءة، بينما الروائيون هم صُنَّاع الحكاية. وفرق كبير بين النبوءة والحكاية. الشاعر عند الركابي إذن إنسان رسولي، هو لا يتنبأ، ولكنه يحمل النبوءة باعتباره جنديًّا من جنودها، وكأن همسات الشاعر هي همسات نبي، ما يدل على أن الشعر الحقيقي ما هو إلا موهبة علوية، وأن لحظةَ إبداع القصيدة هي لحظةٌ إلهية بامتياز.

أما الرواية فتتحكم فيها الصنعة، على الرغم من أن أبا هلال العسكري (920 -1005) أطلق لفظ الصناعتين على الشعر والنثر، والرواية تدخل في باب النثر.

وعند الركابي، فإن الروائيين هم صنَّاع الحكاية، والحكاية هي الحياة، فهم إذن صنَّاع الحياة، ويلفتنا “الصنعة” أي القدرة على صناعة الأحداث والشخصيات والمواقف واختيار الزمان والمكان، والروائيون يعقدون صداقة بين الواقع والخيال، وهم في الوقت نفسه: أبطالٌ في لي عنق التاريخ، ومحو كل خطوة زائفة.

هنا نجد المفارقة، فمَنْ يلوي عنق التاريخ، بالتأكيد هو مزيِّفٌ لهذا التاريخ، كمن يلوي عنق الحقيقة. ولكن الروائي قادر على محو الخطوة الزائفة. فهو لديه القدرة على التزييف ومحو هذا التزييف في الوقت نفسه. وأنا لا أسميه تزييفًا، ولكن اسميه تخييلا، فالروائي قادر على التخيُّل والعلو على الواقع من خلال الفانتازيا والعجائبية والغرائبية والواقعية السحرية حيث يسمو الخيال ويتعملق، ثم الارتداد إلى الواقع مرة أخرى ومحو مثل هذا الخيال. وقديما كان العرب يطلقون على هذا النوع الأدبي القادر على صناعة الحكايات وسردها، “تكاذيب الأعراب”، وفي كتاب “الكامل في اللغة والأدب” للمُبرَّد، باب بعنوان “تكاذيب الأعراب.”

إن الروائي لديه القدرة على اللعب بالكلمات والأفكار والأخيلة والأقدار والمصائر، واللعب أيضا بالأزمنة والأمكنة، كل هذا يُعطي الروائي القدرة على لي عنق التاريخ، ويعطيه أيضا القدرة على محو كل ما هو زائف.

وإذا كان شوقي قال إن “الشعر ابن أبوين: الطبيعة والتاريخ”، فإن الركابي – في تعريفه – يرى أن السردَ ليس أبا التاريخ. وإنما هو لحظةُ كشفٍ وكيمياء إلهية، وهو يقترب بذلك من الشعر، والسارد ليس مؤرخًا بطبيعة الحال، بل مستكشفٌ للوجود.

الرسامون والعشاق

Thumbnail

أما “التشكيليون”، فهم الملائكيون في الترتيب الببليوغرافي للحالمين. وإذا كان الشعراء هم جند النبوءة، فإن التشكيليين هم الملائكة. تُرى هل هناك فارق بينهما؟

التشكيليون قادرون على إيقاف عجلة الزمن والانتصار عليه، عن طريق الصورة أو الرسم أو اللون، بينما الشعراء قد لا يستطيعون ذلك. أيضا التشكيليون لديهم تأملات نبوئية جميلة، ذلك أن الرسَّام صائد أحلام، والمرسم معبدٌ فُستقي الضوء.

وهكذا يمضي عذاب الركابي في تعريفاته الشعرية للمرسم، واللوحة أخت القصيدة، والقصيدة أخت اللوحة، وكلتاهما طفلتان شقيتان لعبُهما ذاتيٌّ فنيٌّ غريزيٌّ.

وعلى مدار هذا النص الذي يعد واحدًا من أطول نصوص الديوان، يربط الركابي بين الشاعر والرسام، ومن المعروف أن عددًا من الرسامين مارسوا كتابة الشعر مثل: صلاح جاهين، وحسين بيكار. أما عند الركابي فالرسام في خطى الشاعر، والشاعر في أحاسيس الرسام، وكلاهما لعبةُ أقدار، ومن نسل السيول والأمطار.

وهنا أتذكر مقولة “إن الشعر يقع في منطقة وسطى بين التشكيل والموسيقى.” فالشاعر يرسم بالكلمات، والرسام يكتب بالضوء والظلال والألوان، وما بينهما الموسيقى تعزف ألحان العشق والغرام.

أما “العشَّاق” فهم هبة الله والشكل الأسمى للوجود ونبيذ الحياة. تعريفات جديدة وجميلة للعشَّاق، لم نجدها في كتب أو معاجم أو قواميس سابقة أو لاحقة. لن نجدها إلا عند عذاب الركابي. ولننظر في تعريف العشَّاق في أي معجم أو قاموس، فسنجد – على سبيل المثال – عشِقَ الشَّيءَ: هَوِيه وتعلّق قلبُه به وأحبَّه حبًّا شديدًا. وعاشق اسم فاعل، والجمع: عاشقون وعُشَّاق. وعِشق: (اسم) مصدر عشِقَ، وهو إفراطٌ في الحُبِّ، غرامٌ، حبٌّ شديدٌ.

لن نجد سوى هذه التعريفات اللغوية التي لم تدخل أتون الشعر، ولم تنصهر في تجربة شعرية مدهشة مثل تجربة الركابي. وتعود الفراشات مرة أخرى لتحلق في أجواء القصيدة، ولكنها في هذه المرة “فراشاتٌ من نور” ومن وجهة نظر العصافير.

هكذا تسير نصوص الديوان، فنلتقي بتعريفات جديدة ومبتكرة للغرباء، والفقراء، واللصوص، والأيديولوجيين، والطيبين، والأصدقاء، والأعداء، والمتأسلمين، والطُّغاة، والوطنيين، والانتهازيين، والأهل، والوطن، والحاكمين.

ويبدو أن الوطنيين يختلفون في تعريفهم عن الوطن، فالوطنيون – عند الركابي – هم الاستثناء في إنسكلوبيديا الفكر والسياسة، وهم مِلَّةُ حبٍّ وكهرباء انتماء حتى الخشوع، يسكن فيهم الوطن، أو يسكنون فيه.. لا فرق. أما الوطن فهو هذا النرجسيُّ الذي لا يرى إلا نفسه في مرآة الكون. وهو خريطةٌ شاحبةٌ معالمُها في ذاكرة المجهول وأسرارُها الأزلية في اللامكان.

تعريفات وتفاعلات وتخريجات وشروحات وتأويلات شعرية وعاطفية وواقعية ورمزية وسريالية ورومانسية وطبيعية وتجريبية وتقريرية إلى آخر هذه المصطلحات غير اللغوية سنجدها في نصوص عذاب الركابي في ديوانه “من وجهة نظر الفراشات”، أقدمها من وجهة نظري. ومن هنا يأتي سر تفرُّد هذا الديوان صغير الحجم (58 صفحة) عظيم الأثر، كأثر الفراشة.

9