حسونة المصباحي التونسي بعصفه

منذ أن تعرّفت عليه في ثمانينات القرن الماضي، يوم كان يأتي بانتظام إلى بغداد، اكتشفت فيه عالما غير مأهول.
حسونة المصباحي لا يشبه أحدا آخر. كائن قادم بحضارة شخصية، هي مزيج من عاطفة القيروان التي ولد فيها وعقلانية الألمان الذين احتضنوه يوم كان يعمل في مجلة "فكر وفن."
وما بين الفارزتين كان المصباحي يضحك من قدره ويكتب القصص ومن بعدها كتب الروايات. ما من مجلس جلس فيه إلا وكان سيده ومركزه.
يمزج حسونة في حكاياته الواقع بالخيال. كانت كل حكاياته موجهة ضد الاستبداد والجهل وسوء الفهم والغباء والبخل والبلادة.
رجل وضع نفسه في خدمة المعرفة والحرية والانفتاح. لذلك كان حزينا بعمق بقدر ما كان يُضحك الآخرين.
كان يحرص على أن يكون مسليا لأصدقائه من أجل ألا يثقل عليهم بأحزانه.
ثلاثة أيام قضيتها معه في تيرانا جعلتني أتعرف على ذلك الشخص الحزين الذي لم يكن حسونة يسمح له بالظهور إلا من خلال القصص التي يكتبها.
يومها أدركت أن صديقي كان قد صنع صورة اجتماعية هي النقيض تماما لشخصيته الحقيقية. هو لم يفعل ذلك إلا من أجل ألا يزعج الآخرين من حوله.
في واحدة من حواراتنا مر ذكر القاص والشاعر الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، فإذا بحسونة يمسك عن الكلام. قال بعد صمت طويل "كل الأدب في ضفة وبورخيس في ضفة ثانية. ذلك شاعر يعذبني."
كتب حسونة المصباحي أدبا نفيسا كما أنه كتب مذكراته، جزءا منها على الأقل. غير أنه كان يأمل في أن يكتب شيئا يجعله قريبا من بورخيس. لقد حلم بتونس أخرى.
تونس يمكنها أن تستعيد قدرتها على الاحتفال بكتّابها الكبار كما حدث مع أبي القاسم الشابي ومحمود المسعدي. ولكن شيئا من ذلك لم يقع. فرح حسونة حين بنى بيته في الذهبيات وهي من ضواحي القيروان، هناك حيث وُلد. نظر إلى مكتبته باعتبارها كنزا. وصار يجلس كل صباح أمام البيت في انتظار بول كلي الذي زار القيروان قبل أكثر من مئة سنة.
أحب المصباحي الأسفار وأحب الكتابة بالقوة نفسها. خانته الجوائز وخذلته لجان التحكيم. غير أن ذلك لم يحبطه بل زاد من إيمانه وثقته بالكتابة التي اعتبرها منذ أن خطت يده أول حرف مصيره الذي أخلص له وعاش مغمورا بعصفه.
عاش حسونة المصباحي الذي فارقنا مؤخرا حياته في بيته بالذهبيات مكتفيا بثراء الجمال، حريصا على استقلاله ونزاهته ووفائه للكتابة، متمردا على وصفاتها الجاهزة مشيدا عمارته الأسلوبية التي تمتزج فيها رائحتا الياسمين والزيتون التونسيتان.