"بالحبر الفاطمي" يتخذ من الكتابة الصُحفية أجمل عتبة للحياة

بين الصحافة والأدب روابط عميقة رغم أنهما لا يشتغلان بنفس الوتيرة، فالصحافة آنية والأدب يتجاوز اللحظة، لكن يمكن لمن يدخلهما معا أن يثري إيقاعه ويفتح نظرته بزوايا أوسع وأن يعالج القضايا من أكثر من وجهة نظر، وهو ما وعت به بشكل لافت الكاتبة والشاعرة التونسية فاطمة بن محمود التي قدمت تجربتها بين العالمين في كتاب جديد.
أصدرت الكاتبة التونسية فاطمة بن محمود أحدث مؤلفاتها، وهو كتاب في حجم متوسط اختارت له عنوان “بالحبر الفاطمي”، وهو عنوان زاوية أسبوعية كانت تكتبها في إحدى الصحف التونسية.
في عتبة الإهداء اختارت بن محمود أن تهدي هذا الكتاب إلى روح أمها وإلى روح صديقها الصحفي ناظم هاني، الذي وافته المنية أثناء مشاركته لآخر برنامج ثقافي في مسيرته الإعلامية الزاخرة، والذي شاركته الكاتبة في إنتاجه وتقديمه في إذاعة تونس الثقافية.
مسيرة في الإعلام
في تقديمها للكتاب أشارت بن محمود إلى أنها اختارت أن تحتفي بتجربتها في الإعلام التونسي في هذا الكتاب الذي يضم في جانب منه نماذج من المقالات التي نشرتها في زوايا بعناوين متعددة كانت تكتبها في بعض الصحف التونسية مثل “قطرة ضوء” و”بالحبر الفاطمي” و”فاطميات”، إضافة إلى كل الافتتاحيات التي كانت تقدمها في برنامج إذاعي بعنوان “بكل هدوء”، كانت تقدمه في إذاعة تونس الثقافية (إذاعة حكومية) مع فقيد الإذاعة الصُحفي ناظم هاني.
عنونت بن محمود تقديمها بـ”الذئبة التي عثرت على ظلها” وفيه تتحدث عن تجربتها الإعلامية، فانطلقت من تجربة الروائي العالمي غابريال غارسيا ماركيز الذي قال إن “الصحافة أجمل مهنة في العالم” لأنها تساعد الروائيين على الانتقال من الواقعي إلى الخيالي، كما أشارت إلى نجيب محفوظ الذي عَبَرَ من الأدب إلى الصحافة، لتقول الكاتبة إنها جاءت إلى الصحافة من باب الأدب لذلك استفادت كثيرا من تجربتها الإعلامية من أجل تغذية شغفها الأدبي عندما تعلّمت أن كل مقالة هي بالأساس فكرة وهدف وأسلوب.
تدربت الكاتبة في الصحافة على الأسئلة التالية: ماذا أكتب؟ كيف أكتب؟ ولمن أكتب؟ وهو ما أنار لها طريقها الأدبي لتجعل من كل قصيدة أو رواية تحمل فكرة ولها أسلوب، وتنجح في استفزاز القارئ والتواصل معه. هذا يعني أن الكتابة الصحفية لم تكن مجرد نقل خبر عندها بل كانت تعبيرا عن موقف من الحياة، لهذا خَلُصت إلى أن الصحافة أجمل عتبة في العالم للدخول إلى الكتابة الأدبية.
الكاتبة تحتفي بتجربتها في الإعلام التونسي في مؤلفها الذي يضم نماذج من المقالات التي نشرتها في زوايا مختلفة
لعل أهم ما يلفت الانتباه في هذه المقالات أنها جاءت لتُعبّر عن نبض المجتمع التونسي وعمّا يحدث في العالم أيضا، لذلك تناولت مواضيع عديدة مثل بداية الموسم الثقافي ومشاكله، والهجرة غير النظامية وعالم الجريمة والاحتفالات الدينية، إضافة إلى المعارك الأدبية والتعابير الثقافية مثل الموسيقى وغيرها وموت المبدع “العضوي” والحرب في غزة، إلخ.
تقول بن محمود على ظهر الكتاب “إذا اعتبرنا أن لكتابة الذات صلة وثيقة بمختلف النصوص الإبداعية التي ترتكز على الهُوية مثل السيرة الذاتية والمذكرات واليوميات وغيرها، فإنه يمكن اعتبار هذه المقالات الصحفية أيضا أداة لمقاربة الذات في مختلف آرائها ومواقفها وانشغالاتها والتي لا تقطع مع السيرة الذاتية بل تعبّر عن جانب مهم منها.” هذا ما يجعلنا نقول إن هذا الكتاب يمثّل شاهدا على الذات في تفكيرها وشهادة على المجتمع في حراكه.
قضايا متنوعة
الكتاب شهادة على مرحلة مهمة في تاريخ تونس والعالم وهو أيضا نبض المثقف المبدع الذي يحمل هواجسه وأسئلته
اللافت في هذا الكتاب، الصادر عن دار خريّف للنشر، أن كل المقالات والافتتاحيات تخضع إلى خيط ناظم يتمثل في الخلفية الثقافية التي كانت تنطلق منها بن محمود باعتبار إيمانها بأن الثقافة هي الضامن لتنمية عادلة في البلاد والعجلة الأساسية التي تحتاجها الشعوب التي تروم النهوض واللّحاق بركب البلدان المتقدمة، بمعنى أن المؤلفة في هذا الكتاب تترك لمسة تخصها وتُعبّر عن وجهة نظرها بصفتها مبدعة تؤمن بأن لا خلاص إلا بالثقافة والانتصار للإبداع، وهذا ما جعل من كل المواضيع والقضايا المختلفة تتضمن أفكارها ومواقفها من مختلف الظواهر التونسية والعربية والعالمية، أي أن هذا الكتاب يُعَبّر عن شهادة على مرحلة مهمة في تاريخ تونس والعالم وهو أيضا نبض المثقف المبدع الذي يحمل هواجسه وأسئلته في الحراك الاجتماعي الوطني والدولي.
من عناوين المقالات في هذا الكتاب نذكر “السينمائي والسياسي وتصحيح الأدوار” و”الكتابة وثقافة الانتصار” و”التسامح وقبول الاختلاف” و”الانحياز للغضب” و”عندما نشعل شمعة” و”من أين نأتي بالحياة؟” و”عندما نفكر بواسطة الموسيقى” و”في مديح الحياة” و”عندما تحتاج الشعوب إلى طفولتها” و”وليمة الرواية وصنارة الجوائز” و”الجريمة والإبداع” و”حوار الحضارات أم صراع الحضارات” و”طقس العبور من الديني إلى الإبداعي” و”الذكاء الاصطناعي الوحش الذي يهدد الإنسان” و”التقاطع بين سيكولوجية الجماهير وسيكولوجية المبدعين” وغيرها مما يثبت اتساع رقعة القضايا التي تعالجها وتنوعها.
وجدير بالذكر أن فاطمة بن محمود أستاذة فلسفة واسم أدبي له حضوره في المشهد الأدبي التونسي خاصة والعربي عامة. وهذا الكتاب يعتبر إضافة لمسيرتها الأدبية المتنوعة فقد كتبت في أنماط إبداعية مختلفة ولها إصدارات في الشعر والقصة القصيرة جدا والرواية وأدب اليوميات من بينها “لا تزعج الليل” و”من ثقب الباب” و”ما لم يقله القصيد” و”الوردة التي لا أسميها” و”ما لا تقدر عليه الريح” و”زمن الغبار” و”الملائكة لا تطير” و”رغبة أخرى لا تعنيني” و”صديقتي قاتلة”.