الطاهر بن جلون: الرسم مثل الكتابة هو انعكاس لطباعي كرجل سلام

"من الكتابة إلى الصباغة".. معرض يصوّر السكينة في عالم مضطرب.
الجمعة 2025/06/27
تجربة ثقافية مهمة

بعد عقود من الاهتمام بالشعر والأدب، بدأ المغربي الطاهر بن جلون يوجه اهتمامه نحو الفن التشكيلي، حيث يخوض تجربة مغايرة تبتعد عن تصويره الروائي والشعري للمواضيع الشائكة التي يواجهها العالم، بل تقترب أكثر من صفاته كرجل سلام، يرى الجمال في كل ما يحيط بنا. وهو في معرضه المنعقد حاليا بالمغرب، يكشف عن موهبته التي نهلت الكثير من مفردات الهوية والتراث في المملكة.

الرباط - كشف الكاتب الطاهر بن جلون في المغرب عن إحدى مواهبه غير المعروفة للعامّة وهي الرسم، فمن خلال لوحاته الملوّنة والزاهية، يسعى أحد أكثر الروائيين الناطقين بالفرنسية انتشارا في العالم للتعبير عن السكينة في عالم مضطرب يرى أن “القوى العظمى تسيء فيه للسلام.”

وحتى 30 يونيو، يعرض متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر في الرباط، على جدران زرقاء، نحو أربعين لوحة أكريليك للكاتب الفرنسي – المغربي الحائز جائزة غونكور عام 1987 عن روايته “ليلة القدر” (La nuit Sacree).

ويحمل المعرض عنوان  “من الكتابة إلى الصباغة” وفيه انعكاس لتحول تجربة المبدع المغربي التي انطلقت من الكتابة حتى اتخذ قرار التعبير عن ذاته وأفكاره بالرسم.

ويقول الطاهر بن جلون إنه يقيم “معارض فنية منذ نحو خمسة عشر عاما”، لكنه يشارك للمرة الأولى في هذا المتحف “المهم جدا” في المغرب، والذي نُظّمت فيه معارض لفنانين من أمثال بيكاسو وفان غوخ ومونيه. ويرى الرجل السبعيني أنّ هذا المعرض هو بمثابة “تتويج” لمسيرته.

بن جلون يستخدم الألوان الزاهية ويوظف الحركات الحرة مع عناصر تجريدية مستوحاة من الثقافة المغربية
بن جلون يستخدم الألوان الزاهية ويوظف الحركات الحرة مع عناصر تجريدية مستوحاة من الثقافة المغربية

تعكس لوحاته طباعه، “طباع رجل سلام”، على حد قوله. ويضيف “لقد ناضلت طوال حياتي من أجل السلام، في كتاباتي، ومقالاتي، ومعاركي. وفي الوقت الحالي، تسيء القوى العظمى للسلام.”

ومع ذلك، يؤكد أن لوحاته “لا تهدف إلى إيصال رسائل سياسية مطلقا،” كما أنها “ليست مرتبطة بأي أيديولوجيا أو سياسة أو جانب اجتماعي.” ويتابع “إنه فن بالمعنى البسيط والمباشر والصادق.”

وعلى عكس رواياته ومقالاته التي تُعدّ “التزاما شخصيا تجاه المشاكل التي يواجهها العالم، سواء مسألة فلسطين، أو أطفال الشوارع، أو وضع المرأة، أو الهجرة، أو العنصرية،” لا تحمل لوحاته أيّ مؤشرات إلى هذه القضايا.

ويقول المهدي قطبي، رئيس المؤسسة الوطنية للمتاحف في المغرب وصاحب فكرة المعرض الذي افتُتح في أوائل أبريل، إنّ “كتابات الطاهر بن جلون أخذتني في رحلة،” ولوحاته تُشعر بـ”الفرح والسعادة.”

وأكد قطبي في تصريحات سابقة أن هذا المعرض يبرز “تشكيلة من الألوان المتجذرة بعمق في روح المملكة المغربية، البلد الذي يحتفى فيه بأعمال فنانين مشهورين مثل أوجين دولاكروا وهنري ماتيس.”

ويقول بن جلون الذي غالبا ما تُصوّر لوحاته أبوابا، وهي رمز “للحرية والروحانية”، “إنّ الرسم يرضي الآخرين ويجعلهم يشعرون بالسعادة.”

وسبق أن أوضح الكاتب الشهير أنه تأثر بالرسم منذ نعومة أظفاره، حتى قبل أن يمتهن القراءة والكتابة، مشيرا إلى أن طفولته التي قضاها في فاس وطنجة كانت مصدر إلهام عميق لصحوة ذائقته الفنية.

وأضاف “أنتقل من الكتابة إلى الرسم دون سابق إصرار، والعلاقة بينهما حميمية ومختلفة في آن واحد،” مشيرا إلى أن رواياته وأشعاره “غالبا ما تكون مشبعة بآلام العالم،” بينما أتاح له الرسم فرصة التعبير عن “أنوار هذا العالم نفسه، وهو بعد أساسي من هويته.”

وتتضمّن بعض لوحاته نصوصا. ويقول الفنان الذي بدأ الرسم عام 2012 بتشجيع من صديق، وأقام معرضه الأول بعد عام، إنّ ذلك يشكل “إشارة إلى الشعر الذي أكتبه.”

ويستعد الطاهر بن جلون الذي سبق أن عرض لوحاته في فرنسا وإيطاليا، لإقامة معرض كبير في زيورخ خلال أكتوبر المقبل. وفي يناير 2026، سيعرض نوافذ زجاجية مُلوّنة مصنوعة من لوحاته في الدار البيضاء.

ولا يتوقف بن جلون، وهو أيضا كاتب مقالات ومعالج نفسي، عن الاستكشاف. وردا على سؤال عن احتمال دخوله في تجربة موسيقية، قال مازحا “أحب الموسيقى… لكنّ ذلك سيكون كارثيا.”

وكان عبد العزيزالإدريسي، المفوض المشارك للمعرض، أشار خلال افتتاح المعرض إلى أن هذا الحدث يسلط الضوء على المسيرة الغنية للطاهر بن جلون، الفنان والصحافي والروائي والشاعر، مذكرا بارتباطه العميق بالرسم باعتباره ناقدا فنيا وصديقا للفنانين.

مبدع جرب فنونا عديدة
مبدع جرب فنونا عديدة

ووفقا للإدريسي، فإن إحدى السمات الخاصة للإبداع الفني في البلدان العربية تتمثل في هذه الثقافة التي تتسم بالموسوعية والعرضانية في آن واحد، حيث يمكن للفنانين “الانتقال من الكتابة إلى الرسم والعكس.”

وأشار إلى أن هذا الانغماس الفني ضروري لفهم أفضل للإبداع الفني لكاتب أو فنان معاصر.

وفي أعماله التشكيلية، يميل الكاتب والرسام المغربي إلى استخدام واضح للألوان الزاهية وتوظيف الحركات الحرة، مع عناصر تجريدية ورمزية مستوحاة من الثقافة العربية والمغربية، مثل الحروف والأزهار والطيور والفراشات، وهي عناصر تعبّر عن مفاهيم الحرية والهوية والفرح، وتشكّل نقيضًا بصريًا للمعاناة التي يُعالجها في رواياته، فالألوان النابضة والصارخة التي يستخدمها في لوحاته كالأحمر، والأصفر، والأزرق، تضفي على اللوحات طابعًا احتفاليًا بالحياة، في حين أن التكوينات غير المنتظمة تعبّر عن الانفلات من القيود.

يذكر أن بن جلون وُلد في مدينة فاس عام 1944. تلقى تعليمه الأولي بالمغرب ثم انتقل إلى فرنسا حيث أكمل دراسته العليا في الفلسفة وعلم النفس. يكتب بالفرنسية، وقد أصبحت أعماله من أبرز ما يمثل الأدب المغاربي الفرنكفوني (المكتوب بالفرنسية).

كتب الشعر في بداياته وانضم إلى مجموعة مجلة “أنفاس” مع عبداللطيف اللعبي. ومن ثم اتجه إلى الرواية فأصدر روايته “حرودة” عام 1973. من بعدها تتالت رواياته “موحي الأحمق، موحي العاقل” و”صلاة الغائب” و”طفل الرمال” و”ليلة القدر”. كتب بن جلون أكثر من عشرين رواية.

وشارك المفكر المغربي في معارض فنية مهمة، من أبرزها معرض “The Color of Words” (ألوان العالم) في الدار البيضاء، ومعرض “Cultural Crossroads” (مفترق طرق ثقافي) في دبي، حيث عُرضت أعماله إلى جانب مقتطفات من نصوصه الشعرية والنثرية. كما عرض لوحاته في باريس والرباط ومدن أوروبية أخرى، مؤكدًا مكانته كفنان بصري إلى جانب كونه كاتبًا عالميًا.

ويرى بن جلون أن الرسم ليس بديلا له عن الكتابة، بل مكمّل لها. ففي الوقت الذي تلامس فيه رواياته ألم الإنسان وظلال الواقع، تأتي لوحاته كمساحة للأمل والضوء، كما قال في إحدى مقابلاته “الكتابة تحفر في العتمة، أما الرسم فهو دعوة إلى النور.”

15