هشاشة أمنية وتعقيدات سياسية تترك العراق عرضة لتلقي ارتدادات توترات المنطقة

بدءا من أحداث الربيع العربي، وتحديدا الثورة السورية التي أدخلت العراق في حرب دامية استمرت لسنوات ضدّ تنظيم داعش، وصولا إلى الحرب الإسرائيلية - الإيرانية، أبان العراق عن هشاشة أمنية كبيرة وضعفا في مناعته ضدّ أحداث محيطه الإقليمي وتطوراته لا يعكسان جهوده الكبيرة في تطوير منظومته الأمنية والدفاعية، بقدر ما يؤشران على وجود عوائق سياسية وأمنية تجعل منه ساحة مفتوحة لتلقي ارتدادات ما يجري حوله.
بغداد- أظهرت هجمات بالطيران المسير الانتحاري تعرّضت لها مواقع وقواعد عسكرية عراقية مجدّدا ما يعانيه العراق من هشاشة أمنية وتعقيدات سياسية تفرض عليه ارتباطات قسرية وضرورية بما يجري في محيطه وتجعله عرضة لتلقي ارتدادات مختلف الهزات التي تجري داخل بعض بلدان ذلك المحيط.
وجاءت الهجمات التي حدثت ليلا وفتحت السلطات تحقيقا لمعرفة مصدرها، كامتداد لحالة التوتّر القائمة في المنطقة بفعل الحرب بين إسرائيل وإيران التي تتّخذ من عدد من القوى السياسية والفصائل العراقية المسلّحة حليفة لها، الأمر الذي جعل العراق ضمن الساحات المهدّدة بامتداد الصراع إليها بعد تهديد بعض تلك الفصائل باستهداف خصوم حليفتها وعلى رأسهم الولايات المتحدة وضرب مصالحهم داخل الأراضي العراقية.
ولا تبدو الجهود الكبيرة والأموال الضخمة التي ينفقها العراق منذ سنوات على تطوير منظومته الدفاعية والارتقاء بمستواها بشريا وتقنيا وتسليحيا، ذات أثر كبير في تشكيل جدار متين للبلد مانع لارتدادات الأحداث والصراعات التي لا تكاد تهدأ في المنطقة، وذلك بسبب عوائق هيكلية جوهرية على رأسها تشتّت القرار الأمني والعسكري، بما في ذلك قرار السلم والحرب وعدم وقوعه بالكامل بيد السلطات الشرعية في ظلّ وجود أجسام شبه عسكرية موازية تتمثّل في الميليشيات، الشيعية في غالبيتها العظمى، والتي باتت بمثابة جيش رديف في البلاد يتحكّم فيه بشكل فعلي قادة تلك الميليشيات رغم انضواء عدد كبير من الفصائل ضمن الحشد الشعبي المصنّف شكليا كقوّة نظامية دون أن يكون ذلك متحققا بالفعل على أرض الواقع.
ولا يمنع وجود الحشد من تحرّك الميليشيات وفقا لاعتبارات طائفية وأجندات سياسية وأمنية ما فوق وطنية تمتد إلى إيران التي يحتفظ حرسها الثوري بصلات متينة مع قادة تلك الميليشيات تصل إلى حدّ تبعيتهم الكاملة له وتنفيذ أوامره بغض النظر عن تناقضها مع توجهات السياسة الرسمية للحكومة العراقية، وهو ما تجلّى مجدّدا خلال الحرب بين جمهورية إيران الإسلامية والدولة العبرية عندما تحدّت بعض الفصائل سياسة النأي بالنفس التي سلكتها حكومة رئيس الوزراء محمّد شياع السوداني وهدّدت بدخول الحرب على طريقتها الخاصة إلى جانب حليفتها طهران.

صباح النعمان: مجموعة من الطائرات الانتحارية المسيّرة الصغيرة استهدفت عددا من المواقع والقواعد العسكرية العراقية
ويكلّف مثل هذا الوضع الشاذّ العراق بقاء مستديما في دائرة التوتّر وعدم الاستقرار الذي لاحت بوادره مع هجمة المسيّرات التي طالت مواقع وقواعد عسكرية عراقية تضرّرت في اثنتين منها منظومات للرادار دون إحداث خسائر بشرية.
ولم تتبنّ أي جهة الهجمات على الفور كما لم تحدّد السلطات ومسؤولون أمنيون هوية المنفذين، فيما قال صباح النعمان المتحدث باسم القائد العام للقوات المسلحة في بيان “من تمام الساعة الثانية والربع ليلا حتى الساعة الرابعة إلا الربع من فجر الثلاثاء، استهدفت مجموعة من الطائرات الانتحارية المسيّرة الصغيرة عددا من المواقع والقواعد العسكرية العراقية التابعة للقوات الأمنية بشكل كامل.”
وسواء كان مصدر المسيرات محليا أو خارجيا فقد كشف عن ضعف منظومة الدفاع الجوي العراقية حيث لا تزال جهود تطوير القوات النظامية في هذا الجانب تراوح مكانها ولا تزال أجواء البلد مفتوحة وخاضعة لتسيد شبه تام عليها من قبل الولايات المتحدة التي لم تجد أي صعوبة خلال أوقات سابقة في استهداف أعدائها المحليين من ميليشيات وقياداتها المحلية والإيرانية، وهو ما تجسّد كأوضح ما يكون عندما قام الطيران الأميركي بتصيّد قاسم سليماني القائد السابق للحرس الثوري الإيراني والقيادي الكبير في الحشد الشعبي أبومهدي المهندس وقتلهما قرب مطار بغداد الدولي مطلع سنة 2020.
وأدى الهجوم الجديد بالمسيّرات، بحسب النعمان، إلى إحداث أضرار كبيرة بمنظومتي الرادار في معسكر التاجي شمال بغداد وقاعدة الإمام علي في محافظة ذي قار جنوبي العاصمة.
ولفت النعمان إلى أن القوات العراقية “تمكّنت من التصدّي وإحباط جميع محاولات الاعتداء الأخرى على أربعة مواقع في أماكن مختلفة والتعامل مع الطائرات المسيّرة وإسقاطها.”
ونوّه إلى أن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أمر بتشكيل لجنة للتحقيق في ملابسات الهجمات والجهات المنفذة لها، مؤكدا أن “هذه الأفعال الإجرامية لن تمرّ دون عقاب.”
وقال مسؤول أمني عراقي لوكالة فرانس برس “لا نعلم إلى حدّ هذه اللحظة مسار انطلاق المسيرات، إذا كان من خارج العراق أم من داخله.”
وأشار مصدر ثان إلى سقوط مسيّرة في أراض زراعية في منطقة الرضوانية غربي بغداد على بُعد عشرة كيلومترات تقريبا من مطار بغداد الدولي الذي تقع فيه قاعدة تضمّ قوات أميركية عاملة ضمن التحالف الدولي لمكافحة تنظيم داعش.
ونفى مصدر مقرّب من الفصائل العراقية المسلحة الموالية لإيران أن تكون لهذه المجموعات أي علاقة باستهداف الرادارات في القاعدتَين بوسط العراق وجنوبه.
وقال مصدر آخر مقرّب من الفصائل “لا نعلم من استهدف هذه الرادارات، لكن من المتوقع أن تكون إسرائيل وراء هكذا أفعال كون سماء العراق وأجوائه مفتوحتين بسبب الاحتلال الأميركي.” وجاء هذا التطوّر الأمني في العراق بعد أن قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب إن إيران وإسرائيل وافقتا على وقف تام لإطلاق النار يضع نهاية رسمية لحرب استمرت اثني عشر يوما.
سهولة اختراق الأجواء العراقية سبق أن تجلت من خلال تصيد الطيران الأميركي لقاسم سليماني وأبومهدي المهندس وقتلهما
وبعدما شنّت إيران هجوما صاروخيا على قاعدة العديد الأميركية في قطر مساء الإثنين دخلت قاعدتا عين الأسد بغرب العراق وفيكتوريا بوسطه، واللتان تستخدمهما قوات أميركية، في حالة تأهب أمني، حسب ما أفاد به مصدر عسكري عراقي، مؤكّدا عدم حصول أي استهداف للقاعدتين.
وتعمل بغداد منذ سنوات على التوفيق بين تحالفها المتين مع جارتها إيران التي تشترك معها في حدود طويلة وروابط سياسية واقتصادية وثقافية من جهة، وشراكتها الإستراتيجية والعسكرية مع واشنطن من جهة مقابلة.
وفي سياق الهجوم الذي بدأته إسرائيل على إيران في الثالث عشر من يونيو الجاري دعت الحكومة العراقية واشنطن إلى منع الطائرات الإسرائيلية من “اختراق الأجواء العراقية وتنفيذ الاعتداءات على الجمهورية الإسلامية.”
وفي الأيام الأخيرة حذرت فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران من استهداف المصالح الأميركية في المنطقة في حال انخرطت واشنطن عسكريا في النزاع، وهو ما تمّ بالفعل بقيام القاذفات الأميركية بضرب منشآت نووية إيرانية شديدة التحصين تحت الأرض بقنابل ضخمة خارقة للتحصينات.