الجزائر تبعث إشارات تهدئة لفرنسا من بوابة قنصليتها في باريس

الجزائر - حمل إعلان قنصلية الجزائر في نانتير بضواحي باريس، عن تنظيم أسبوع من النشاطات احتفاءً بالذكرى الـ63 لاستقلال الجزائر، مؤشرا على محاولات لتهدئة الأزمة الدبلوماسية غير المسبوقة بين البلدين، من خلال رسائل غير مباشرة تعتمد على التواصل الثقافي من باب الجالية الجزائرية.
وذكر موقع "كل شيء عن الجزائر"، أن التظاهرة تُقام بشعار "المشاركة، الذاكرة، والود"، وهي مصطلحات لافتة لم تعتد السلطات الجزائرية وتصريحات كبار الساسة على استخدامها سابقا ما يؤكد الرغبة في تمرير إشارات غير مباشرة لفرنسا بإمكانية تهدئة الأجواء، دون أن تخرج من مصادر رسمية منعا لإحراج السلطة التي استمرت في لغتها الحادة بشكل متصاعد في ظل الإجراءات الانتقامية بين البلدين منذ بداية الأزمة التي ظهرت إلى العلن بعد اعتراف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالسيادة المغربية على الصحراء في يوليو 2024.
واتسمت التصريحات الرسمية لمسؤولي البلدين طوال الفترة الماضية بتبادل الاتهامات والردود الحادة وخصوصاً في ملفات الهجرة والذاكرة التاريخية والصحراء المغربية. وخصصت القنصلية الجزائرية برنامجا حافلا يركز على التقارب الثقافي بعناوين لافتة حيث ستشهد المناسبة تنظيم “استقبال ودي” من طرف القنصل الجزائري تحت عنوان “كسكسي الصداقة”، سيتم خلاله تكريم وتسليم جوائز لقدامى المحاربين في ثورة التحرير الجزائرية (1954–1962).
ويشارك في التظاهرة عدد من الجمعيات الجزائرية النشطة في فرنسا، من بينها “تجمع 16 أكتوبر 1961”، الذي يخلّد تاريخ المظاهرات الكبرى للمهاجرين الجزائريين في باريس من أجل الاستقلال، و“جمعية سيتي 2000.”
ويتضمن البرنامج عرض فيلم عن الطبيب والمناضل فرانز فانون، أحد رموز مقاومة الاستعمار، والذي عاش بين الجزائريين خلال خمسينيات القرن الماضي، إلى جانب عروض مرئية عن أبرز الرياضيين الجزائريين في فرنسا ولاسيما نجوم كرة القدم. ومن أبرز فعاليات الأسبوع إقامة بطولة لكرة القدم النسائية، في 5 يوليو، المصادف لعيد الاستقلال، بمشاركة 12 فريقاً تضم نحو 140 لاعبة، كما يشهد الحدث تنظيم معرض للحرف اليدوية الجزائرية احتفاءً بالتراث الثقافي، ومباراة استعراضية يشارك فيها لاعبون سابقون وفنانون معروفون.
ويلفت مراقبون أن السلطة الجزائرية بدأت تعيد التفكير في نهجها التصعيدي في ظل وجود أزمات دبلوماسية من كل جانب بدءا من محيطها الإقليمي، إذ أن هذه الأزمات تترافق مع خسائر سياسية واقتصادية ولا مصلحة للبلاد في الاستمرار بهذه الطريقة.
واعتبر السفير الفرنسي السابق في الجزائر، كزافيي دريينكور، أن النظام الجزائري يعيش اليوم واحدة من أضعف لحظاته على الصعيد الدبلوماسي، بعدما فقد الكثير من حلفائه التقليديين في المنطقة، مشيرا إلى أن فرنسا يجب أن تُغيّر من مقاربتها في التعامل معه، وتتجاوز سياسة “العمى المزدوج” التي حكمت علاقتها بالجزائر منذ الاستقلال.
وقدم دريينكور في كتابه بعنوان “فرنسا – الجزائر، العمى المزدوج” تحليلا معمقا للعلاقات الثنائية بين البلدين منذ اتفاقيات إيفيان عام 1962 إلى الأزمة الحالية بعد اعتراف فرنسا بمغربية الصحراء. ووصف دريينكور الوضع الحالي بين باريس والجزائر بأنه أخطر أزمة بين البلدين منذ الاستقلال، ناتجة عن “عمى مزدوج” فرنسي، في السياسة الخارجية والسياسة الداخلية، مشيرا إلى أن “هذا العمى يتجاهل مدى قوة وتماسك شبكات النفوذ الجزائرية، التي تفوقت على تقديرات صانعي القرار في باريس.”
◙ التصريحات لمسؤولي البلدين اتسمت بتبادل الاتهامات والردود الحادة وخصوصا في ملفات الهجرة والذاكرة التاريخية والصحراء المغربية
ويتهم الكاتب الفرنسي في مؤلفه النظام الجزائري بكونه نظاما بوليسيا يعيش على “الرّيع التذكاري”، ويواصل استغلال التاريخ الاستعماري لتأجيج العداء لفرنسا، بما في ذلك بين الجالية الجزائرية في فرنسا، وبدعم من صحافة محلية خاضعة للرقابة. وفي المجال الدبلوماسي، أشار دريينكور إلى أن الجزائر خسرت مالي وليبيا والإمارات، بينما علاقتها مع المغرب مقطوعة تماما، كما أنها لم تنجح في مساعيها للانضمام إلى مجموعة “بريكس” رغم جهودها المتواصلة خلال السنوات الأخيرة.
وشددت الجزائر من لهجتها تجاه باريس، خلال السنوات القليلة الماضية، مطالبة باعتراف رسمي بـ“جرائم الاستعمار الفرنسي” وتقديم اعتذار صريح عنها، وعلى الرغم من بعض الخطوات الرمزية التي اتخذها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لاسيما وصفه الاستعمار بـ“الجريمة ضد الإنسانية” خلال حملته الانتخابية في 2017، فإن ملف الذاكرة لا يزال مثار خلاف دائم.
وتدهورت العلاقات بين البلدين مع إعلان قصر الإليزيه في يوليو 2024 دعمه لسيادة المغرب على الصحراء، ما دفع الجزائر إلى سحب سفيرها فوراً، وتعليق التعاون الأمني مع باريس، لاسيما في مجالات مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، وتبادل المعلومات الاستخباراتية. كما علقت الجزائر إصدار التصاريح القنصلية المطلوبة لترحيل المهاجرين غير النظاميين، ما ضاعف من تعقيدات الملف الذي طالما شكل نقطة خلاف بين البلدين.
وفي نوفمبر 2024، اشتعل فتيل الأزمة مجدداً بعد اعتقال الكاتب بوعلام صنصال، ذي الجنسيتين الجزائرية والفرنسية، وإدانته بالسجن خمس سنوات بتهمة “المساس بالوحدة الترابية”، على خلفية تصريحات إعلامية أدلى بها في فرنسا زعم فيها أن “أجزاء من غرب الجزائر تعود إلى المغرب.”
والثلاثاء، طلبت نيابة محكمة الاستئناف السجن عشر سنوات لصنصال الذي حُكم عليه بالسجن خمس سنوات في المحكمة الابتدائية بعد إدانته بتهمة المساس بسلامة وحدة الوطن. وقال وكيل نيابة الجمهورية أمام محكمة الاستئناف التي ستصدر قرارها في الأول من يوليو “نطلب عشر سنوات سجنا ومليون دينار غرامة.”
وكانت المحاكمة مقررة في 20 مايو لكنها أرجئت إلى 24 يونيو بناء على طلب المتهم “للسماح له باختيار محامين للدفاع عنه،” لكن خلال الجلسة التي استمرت نحو 20 دقيقة، تقدّم صنصال دون محام. وبدا الكاتب البالغ 80 عاما والمصاب بالسرطان بصحة جيدة وأجاب على أسئلة القاضية دون صعوبة، بحسب مراسل فرانس برس الذي كان موجودا في الجلسة.
واستأنفت النيابة وبوعلام صنصال المسجون منذ منتصف نوفمبر، حكما ابتدائيا بالسجن خمس سنوات صدر في 27 مارس بتهمة المساس بوحدة الوطن بسبب تصريحاته في أكتوبر لوسيلة إعلام فرنسية يمينية “فرونتيير”، تبنى فيها طرحا مغربيا بأن قسما من أراضي المملكة اقتطع في ظل الاستعمار الفرنسي وضمّ للجزائر.
وقال صنصال للقاضية حول هذه التصريحات، بأنها “كتابة أدبية والدستور الجزائري يضمن حرية التعبير والفكر. هذا غير معقول.” وأضاف ”الدستور ينص على حرية التعبير ثم نقوم بمحاكمة من أجل كتابة أدبية. إلى أين نتجه هكذا؟” وتشكل هذه المسألة محور نزاع دبلوماسي بين الجزائر وفرنسا. وتعتقد الجزائر أن العدالة أخذت مجراها، بينما تدعو باريس إلى “لفتة إنسانية” تجاه الرجل الذي يعاني من السرطان.