في ذكرى رحيله: صلاح أبوسيف رائد الواقعية الذي جسد الشارع المصري

القاهرة - حلت الأحد ذكرى رحيل المخرج صلاح أبوسيف رائد السينما الواقعية في مصر، والذي قدم العديد من الأفلام التي حفرت لنفسها مكانا في ذاكرة عشاق السينما في العالم العربي.
المخرج الذي ولد في القاهرة في العاشر من مايو عام 1915، وتوفي في الثاني والعشرين من يونيو عام 1996، بدأ مسيرته المهنية كصحافي، لكنه ما لبث أن اتجه إلى عالم السينما في أربعينات القرن الماضي، حيث عمل مساعدا للمخرج كمال سليم في فيلم “العزيمة” عام 1939، وهو من أوائل الأفلام التي حملت ملامح الواقعية الاجتماعية في السينما المصرية. هذا التكوين المبكر ترك أثرا عميقا في توجهه الفني لاحقا كمخرج وكاتب سيناريو.
امتدت المسيرة الفنية للمخرج المصري الراحل لأكثر من أربعة عقود، أخرج خلالها أفلاما تركت بصمة بارزة في تاريخ السينما المصرية. كانت بدايته الإخراجية مع فيلم “دايما في قلبي” عام 1946، لكن الانطلاقة الحقيقية جاءت مع فيلم “لك يوم يا ظالم” عام 1952، والذي كرّسه كمخرج يمتلك رؤية واقعية وإنسانية متعمقة. من أشهر أعماله “شباب امرأة” عام 1956، “الفتوة” عام 1957، “الوسادة الخالية” عام 1957، “بداية ونهاية” عام 1960، و”القاهرة 30″ عام 1966. وقد تنوعت هذه الأعمال بين الدراما الاجتماعية والنقد السياسي والتعبير عن أزمات الإنسان البسيط في المجتمع المصري.
أسس أبوسيف مدرسة سينمائية جمعت بين الواقعية والرومانسية، وتميزت بنظرة اجتماعية ناقدة، واعتبره معظم النقاد رائد الواقعية الأول في السينما العربية، وتخرج من مدرسته العديد من السينمائيين العرب.
وتُعد الواقعية الاجتماعية السمة الأبرز في أعماله، حيث تأثر بالمدارس السينمائية الأوروبية، خاصة الواقعية الإيطالية، وانعكس ذلك على أسلوبه الإخراجي واختياراته لموضوعات أفلامه، حيث سخر مسيرته الفنية لتصوير معاناة الطبقات المهمشة، من فقراء وكادحين، مسلّطا الضوء على قضاياهم بصدق وعمق، بالإضافة إلى حرصه الكبير على التفاصيل الدقيقة، سواء في بناء الشخصيات أو في تصوير البيئة الاجتماعية المحيطة بها، مما منح أفلامه واقعية نابضة بالحياة.
وقدم المخرج الراحل أفلاما رصدت واقع الحياة المصرية من جميع جوانبها، ومنها أفلام “ريا وسكينة”، “شباب امرأة”، “لا أنام”، “الزوجة الثانية”، وغيرها من الأفلام التي سجلت كأفضل الأفلام في السينما المصرية.
كما أهدى صلاح أبوسيف للسينما المصرية كاتبا كبيرا وهو الأديب نجيب محفوظ (1911 – 2006)، بعد أن قرأ له رواياته الواقعية، واستعان به في كتابة سيناريوهات أفلامه، وكانت رواية “بداية ونهاية” فاتحة خير على محفوظ، بعد أن تحولت إلى فيلم من إخراج أبوسيف عام 1960، واعتُبرت هذه الشراكة بينهما من أنجح التعاونات بين الأدب والسينما في تاريخ الفن العربي.
ويقول الناقد رفيق الصبان إن “صلاح أبوسيف كان يتعامل مع السينما ككاتب سيناريو قبل أن يكون مخرجا… وكانت رؤيته مكملة لرؤية محفوظ الروائية.”
واستطاع المخرج الراحل تقديم 50 عملا سينمائيا خلال مسيرته الفنية، جاء 11 منها ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، كما ظهر كضيف شرف في فيلم “أضواء المدينة” عام 1972، وحصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية خلال مسيرته الفنية، وله مؤلفات في مجال الفن، منها: كتاب “السينما فن”، و”فن كتابة السيناريو”.
المخرج الراحل قدم أفلاما رصدت واقع الحياة المصرية من جميع جوانبها، ومنها أفلام "ريا وسكينة" و"شباب امرأة"
وقد أجمع النقاد على أنه نقل السينما من أجواء الميلودراما والخيال إلى تصوير الحياة اليومية والواقع المعيش بكل تفاصيله، خاصة واقع الفقراء والكادحين. هذه النقلة النوعية جعلت منه رائدا للمدرسة الواقعية في العالم العربي، واعتبره النقاد حجر الأساس لما يُعرف بـ”السينما الجادة” في مصر.
ورأى النقاد أن أبوسيف لم يكن فقط مخرجا جيدا، بل كان أيضا بنّاءً سينمائيا محنكا، حيث كان يتحكم في السيناريو، والمونتاج، وتصميم الإنتاج، وكان يحرص على التفاصيل الصغيرة في الأداء والمكان والديكور.
من هؤلاء الناقد محمود قاسم الذي رأى أن “أبوسيف كان مهندسا في بناء الفيلم، يعرف كيف يتحكم في الإيقاع، ويختار زاوية الكاميرا التي تخدم المعنى”، والناقد طارق الشناوي الذي رأى أن “أبوسيف وضع يده على الجرح المصري… لم يجمّل الواقع ولم يبتعد عنه.”
أما المخرج الراحل فكان يرى أن السينما أفضل أداة للتعبير عن المجتمع ومعالجة كل أحواله، وقال في أكثر من حوار له إن هدفه الأول من السينما ودخوله المجال الفني هو أن يعبّر عن مجتمعه، قائلا “أنا ما دخلتش السينما إلا علشان أعبّر عن المجتمع اللي كنت عايش فيه.”
كما كان يرى أن “الإيمان بالمبدأ يلهم الفنان طريقة التعبير عن أفكاره التقدمية.. والفنانون المخلصون هم دائما حاملو راية التقدم في العالم.. حتى في الولايات للمتحدة التي تعتبر بمثابة قلعة الرأسمالية المحصنة.. نجد فنانينها الأصلاء هم الذين يحملون راية التمرد ضد المكارثية، والانحلال والاستقلال.. القطاع العام.. انتصر!”.
وعن تجربته في الأفلام الواقعية، أكّد أن “الفيلم الواقعي يظلّ حيا على الدوام، بينما الفيلم الذي يهدف إلى التسلية يُنسى تماما بمجرد خروج المشاهد من قاعة العرض.”
وهكذا، يبقى صلاح أبوسيف حاضرا في ذاكرة السينما العربية، ليس فقط بما قدمه من أفلام خالدة، بل بما رسخه من منهج سينمائي واقعي جسد نبض الشارع المصري وتحولات المجتمع، في ذكرى رحيله، لا نرثي فنانا رحل، بل نحتفي بميراث سينمائي لا يغيب.