هل دخل الصراع بين إسرائيل وإيران مرحلة تفكيك الردع؟

إيران التي لطالما اعتمدت على شبكة من الوكلاء في الإقليم، تجد نفسها وحيدة في ساحة مكشوفة، بعد أن باتت أذرعها محيّدة أو غائبة تماما.
الأحد 2025/06/22
الحرب اختبار جدي لقدرات إيران

جاءت عملية “الأسد الصاعد” الإسرائيلية ضد إيران كانعطافة حاسمة في بنية الاشتباك الإقليمي وتحوّل نوعي في قواعد اللعبة بين طرفين تبادلا التهديد لعقود دون أن ينزلقا إلى مواجهة مباشرة بهذا الحجم. فما الذي يجعل صيف 2025 مختلفا عن كل ما سبقه؟ ولماذا جاء الرد الإيراني دون مستوى الضربة رغم استثنائيته الرمزية؟ وهل ما زال للاتفاق النووي مستقبلٌ يُرجى بعد هذه الجولة العنيفة من الضربات بخسائرها ذات المستويات المتعددة بالنسبة إلى إيران؟

أظهرت ضربات عملية “الأسد الصاعد” أن الهجوم تجاوز البُعد العسكري البحت، واتّسع ليطال رموزا في النظام العسكري والأمني والتكنولوجي والبنية الصناعية للقدرة النووية الإيرانية، بما فيها مواقع متقدمة في قم وأراك وأصفهان وطهران.

وهذا ما كشف عن تحوّلٍ في العقيدة الإسرائيلية من سياسة “الاحتواء غير المباشر” إلى إستراتيجية “التفكيك الميداني المباشر”، وهي تقوم على تعطيل البنى التحتية المرتبطة بالبرنامج النووي بالقوة الجراحية، بدلاً من الرهان على العقوبات أو التفاهمات الدولية. فالضربات أتت كفصل جديد في مقاربة تُقدّم الضربة العسكرية كأداة سياسية، وليس كسلوك طارئ.

◄ بينما تسعى واشنطن لاحتواء الانفجار، وتراهن طهران على استيعابه، وتصرّ إسرائيل على تعميقه، يبدو أن مستقبل الإقليم سيتحدّد أكثر من أي وقت مضى بما ستؤول إليه نتيجة هذا التصعيد

هنا يمكن الإشارة إلى مفهوم “الردع الإجهاضي” الذي تبنّته إسرائيل، فهي انتقلت إلى التنفيذ الفعلي لشلّ ما تعتبره تهديدا وجوديا. ويشير تحليل بنية الهجوم واتساع أهدافه إلى أن إسرائيل لم تعد تعتبر الصمت الإيراني مؤشرا على ضبط النفس، وإنما استثمارا في الزمن لبناء قدرات نووية تهدد أمنها القومي.

في مواجهة هذا الهجوم أطلقت إيران صواريخ باليستية من داخل أراضيها باتجاه أهداف إسرائيلية، وهو سلوك نادر ويشكّل تغيرا في قواعد الاشتباك، إلا أن هذا الرد، رغم رمزيته، بدا غير متناسب مع حجم الاستهدافات الإسرائيلية، ويفتقر إلى العمق العملياتي الذي من شأنه أن يردع تل أبيب عن تكرار الفعل.

هنا تبرز معضلة الردع الإيراني؛ فإيران التي لطالما اعتمدت على شبكة من الوكلاء في الإقليم، تجد نفسها اليوم وحيدة في ساحة مكشوفة، بعد أن باتت أذرعها في سوريا ولبنان والعراق واليمن إما محيّدة أو غائبة بالكامل. لم تعد طهران تملك ترف المناورة غير المباشرة، وهي تُدرك أن التصعيد المنفلت قد يفتح عليها أبواب مواجهة شاملة لا تملك أدوات حسمها. ولهذا، بدا ردّها كمن يحاول “إثبات الفعل دون جرّ الحرب،” أو كما يسمى إستراتيجيا بـ”الرد المحسوب تحت سقف المواجهة.”

لقد جاءت الضربة الإسرائيلية بعد أشهر من عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، حاملاً معه إرثا من المواجهة مع إيران، وموقفا متشددا من الاتفاق النووي الذي سبق أن انسحب منه عام 2018، معيدا فرض أقسى العقوبات الاقتصادية. عودة هذا المزاج السياسي إلى واشنطن أعادت إنتاج ديناميكيات الضغط القصوى، التي تقوم على ترسيخ عزلة إيران، وتفكيك منظومتها التفاوضية عبر استهداف العمق لا الأطراف.

في هذا السياق، لا تبدو إسرائيل تصرّفَت خارج الفضاء الغربي، بل ضمن منطق تقاطع المصالح الأمنية والسياسية مع واشنطن.

تعلن إسرائيل أن هدفها الإستراتيجي من العملية هو تفكيك البرنامج النووي الإيراني قبل أن يتحوّل إلى سلاح، مستفيدة من كل نقاط الضعف التي كشفتها الجولات السابقة من التفاوض. هي تدرك أن البرنامج لا يزال ضمن المسار القابل للتعطيل، لكنه يقترب من لحظة العتبة التي يصبح فيها من المستحيل تفكيكه من دون ضربة كاملة.

◄ عمليات التصعيد الإسرائيلي ضد إيران تكشف عن تحوّل عميق في قواعد الاشتباك الإقليمي، وتعيد النقاش حول فاعلية الردع، وجدوى المفاوضات النووية

من هنا، اتّجهت تل أبيب إلى تنفيذ ضربات نوعية تستهدف البنى التحتية والمعرفية للبرنامج، بما يشمل العلماء، ومراكز البحث، وسلاسل التوريد، والبنية الصناعية. وتعوّل على أن الضربة ستربك النظام، وتؤدي إلى تباطؤ المشروع أو إعادة هندسته تحت رقابة دولية صارمة.

رغم الانسجام العلني في السياسات، فإن هناك إشارات إلى فجوة كامنة في تقدير الموقف بين واشنطن وتل أبيب. ففي حين تبدو إسرائيل مصممة على تفكيك القدرة النووية الإيرانية عبر الحرب، تحافظ الإدارة الأميركية على مقاربة أكثر حذراً، مدفوعة باعتبارات الطاقة العالمية، والقلق من الانزلاق إلى مواجهة إقليمية واسعة تهدد المصالح الأميركية في الخليج.

ويبدو أن ما يُحدث التوتر البنيوي بين الطرفين لا يتعلق فقط بأدوات التدخل، بل بتباين جذري في تقدير المخاطر؛ فبينما ترى إسرائيل في كل تأخير فرصة لإيران لتعزيز قدراتها، تُقيّم واشنطن أي انزلاق واسع بصفته تهديدا مباشرا لاستقرار أسواق الطاقة، وتوازن علاقتها مع شركائها الخليجيين، ما يخلق فجوة إستراتيجية بين قرار الحسم وضرورات الاحتواء.

لا يمكن قراءة هذه التطورات من دون العودة إلى سؤال الاتفاق النووي؛ هل انتهى فعلاً؟ أم أن ما يجري هو استخدام للحرب كورقة ضغط للعودة إلى طاولة جديدة بشروط مختلفة؟

المعطيات تميل إلى سيناريو أولي يقول إن الاتفاق لم يعد قائما بالمعنى الفعلي، خاصة مع انسحاب واشنطن السابق، ورفض طهران للشروط الجديدة، وتحوّل إسرائيل إلى فاعل ميداني مباشر. لكنّ هذا لا يعني أن التفاوض قد دُفن نهائيا، بل إن التصعيد ربما يكون وسيلة لتفكيك تبعات الاتفاق القديم لصالح إنتاج إطار تفاوضي جديد، يركّز على الرقابة القصوى ونزع القدرات بدل تأجيلها.

◄ ضربات عملية "الأسد الصاعد" أظهرت أن الهجوم تجاوز البُعد العسكري البحت، واتّسع ليطال رموزا في النظام العسكري والأمني والتكنولوجي والبنية الصناعية للقدرة النووية الإيرانية

إسرائيل فرضت معادلة “الردع بالقوة الفعلية”، بينما اكتفت إيران بـ”الردع الرمزي”. ومع غياب الوسطاء، وانكشاف عجز المجتمع الدولي عن كبح التصعيد، يبدو أن المشهد مرشّح للمزيد من الاحتكاك الميداني الذي يسبق أي تفاوض محتمل.

ومع تعقّد مشهد التصعيد وفشل آليات الردع التقليدي، تبرز الحاجة الملحّة لإعادة التفكير في بنية الأمن الإقليمي، عبر صياغة إطار أمني جديد يأخذ في الحسبان التبدلات الجيوسياسية والتقنية التي فرضتها هذه المواجهة المباشرة.

وتكشف عمليات التصعيد الإسرائيلي ضد إيران عن تحوّل عميق في قواعد الاشتباك الإقليمي، وتعيد النقاش حول فاعلية الردع، وجدوى المفاوضات النووية، وحدود الاستخدام السياسي للعنف في تشكيل البيئة الإقليمية.

إن ما نشهده اليوم مفترق تاريخي يعيد تشكيل المعادلات الأمنية والسياسية في الشرق الأوسط، ويطرح سؤالا جوهريا على طاولة التقدير الإستراتيجي؛ فهل ما زالت المفاوضات مجدية؟ أم أن زمن الحلول الدبلوماسية قد دخل في سبات طويل لا يوقظه سوى تغيير في موازين الردع؟

وبينما تسعى واشنطن لاحتواء الانفجار، وتراهن طهران على استيعابه، وتصرّ إسرائيل على تعميقه، يبدو أن مستقبل الإقليم سيتحدّد أكثر من أي وقت مضى بما ستؤول إليه نتيجة هذا التصعيد؛ فهل يكون انفجارا شاملا، أو تراجعا مؤقتا نحو هدنة هشة؟

6