تفكيك سردية داعش وسط الانخراط الأمني الأميركي في سوريا

الانخراط الأميركي مع سلطة دمشق لم يكن نتيجة تحول جذري ودائم وإنما يبدو أنه قد جاء بدافع مواجهة داعش.
الثلاثاء 2025/06/17
البعد الأمني يطغى على الانفتاح الأميركي الجديد على سوريا

حين قررت واشنطن إعادة تحريك حضورها في الملف السوري خلال المرحلة الانتقالية الراهنة، لم يكن ذلك استجابة لتحول سياسي، بقدر ما كان رغبة في ضبط ومنع ظروف تخلق أي تهديد أمني منبعث من سوريا. لقد كان لافتا أن تأتي عودة الولايات المتحدة إلى الملف السوري من بوابة محددة وأساسية. لم تتحدث واشنطن في الخطابات الأخيرة لمسؤوليها عن سوريا حول الانتقال السياسي فقط، ولا عن دعم مسارات العدالة الانتقالية، لكن فقد تمثلت أولوياتها الأساسية في معضلة الأمن.

هذا التحول ينسجم مع ما يُعرف في حقل العلاقات الدولية بمقاربات “الواقعية الدفاعية”، حيث تُغلّب اعتبارات الأمن حتى على الالتزام بالقيم الديمقراطية في بعض الحالات، كما أشار ستيفن والت في نقده للنموذج الأميركي في ما بعد الحرب الباردة.

وعلى وقع هذا التحول، جاءت زيارة المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توماس باراك إلى دمشق في نهاية مايو الفائت، على متن مروحيات عسكرية انطلقت من الأردن، وبرفقة قياديين عسكريين من التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، هما اللواء كيفن ليهي والعميد مايكل بروكس. تلك الزيارة جسّدت تحولا مفاهيميا في السياسة الأميركية تجاه سوريا؛ مواجهة الإرهاب، ولو تطلب ذلك إعادة تموضع ميداني وانفتاحا على السلطات المحلية الانتقالية.

تزامنت هذه الانعطافة الأميركية مع تصاعد نشاط تنظيم داعش في شمال شرقي سوريا، بعد أشهر من الهدوء النسبي الذي أعقب انهيار نظام الأسد أواخر 2024. فقد انتقل التنظيم من تنفيذ هجمتين فقط في يناير 2025 إلى أكثر من 38 هجوما في مايو الفائت، معظمها في مناطق خارجة عن سيطرة الحكومة الانتقالية.

◄ غياب إستراتيجية سياسية أميركية متماسكة تجاه سوريا يطرح تساؤلات حول مدى استدامة أي انفتاح لا يتجاوز البعد الأمني

اللافت أن هذه الهجمات لم تكن عشوائية، بل هدفت إلى زعزعة الاستقرار الأمني، وتوجيه رسائل مباشرة للجهات المحلية والدولية بأن التنظيم لم يُهزم بعد، وإن تلقى ضربات ميدانية موجعة ومكثفة. وأكثر من ذلك، بدا أنّ داعش يحاول استعادة صيغته القديمة في توظيف الفوضى، لكن هذه المرة ليس في وجه “الطاغوت” التقليدي المتمثل بـ”نظام الأسد”، وإنما في مشهد انتقالي متشظٍ، يفتقر إلى مركز رمزي واضح. وهو يطابق ما يسميه كين مينكهاوس “أثر الدولة الغائبة”، حين تتغذى الجماعات المسلحة المتطرفة على هشاشة البنية السيادية، لا على السيطرة الكاملة.

لسنوات، نجح تنظيم داعش في الاستفادة من حالة الطغيان والاستبداد لتبرير مشروعه وتغذية سرديته “الخلاصية”. كان قوام تلك السردية قائما على ثنائية التوحيد مقابل الطغيان، والجهاد مقابل الردّة. لكن بسقوط نظام الأسد، فقدت هذه الثنائية جزءا كبيرا من قوتها التعبوية.

ولم يكن أمام داعش إلا أن يجد لنفسه عدوا جديدا يُعيد إنتاج المعركة الأيديولوجية، فوجه بوصلته نحو السلطة القائمة، وهاجم رموزها، واتهمهم بالارتداد عن الدين، وبالتبعية للخارج. إلا أنّ هذه الهجمات، التي بدت في ظاهرها دينية، كانت تعبيرا عميقا عن أزمة سردية داخل الفكر الجهادي نفسه، لا عن تمسك صادق بعقيدة ثابتة.

في هذا السياق، تُبرز ظاهرة “الرِدّة الداخلية” مفهوما تحليليا بالغ الأهمية لفهم ما يحدث داخل التنظيمات السلفية الجهادية. لم يعد الصراع يتمحور فقط حول “العدو الخارجي”، بل بات يُعاد إنتاجه داخل الصف ذاته، حين تتواجه التيارات الجهادية وتتنازع فيما بينها على تعريف “المشروعية”، أو على أحقية تمثيل “الطليعة المؤمنة”.

هذه الحالة من التصارع بين المتشابهين تجد جذورها في مفاهيم “نقاء الأيديولوجيا”، كما طُرحت في أعمال كلود لوفور ومفكري مدرسة ما بعد البنيوية. إذ يصبح الصراع الجهادي الداخلي، في لحظات ما بعد التأسيس، شبيها بالصراعات الماوية أو الستالينية، حين يتحول التهديد الداخلي (المنحرف عن الخط الأصيل) إلى خطر وجودي أكبر من العدو الخارجي.

ففي منظومات الفكر المغلق كالتي يمثلها داعش، لا تكون المعركة الكبرى ضد النقيض، وإنما ضد الانحراف. الانحراف هو الذي يهدد الصفاء، وهو الذي يكشف هشاشة اليقين، ولذلك تُوجَّه له أقصى درجات التكفير والقتل. من هنا يصبح التكفير أداة لاحتكار السردية، والعنف وسيلة لحماية وهم الطهارة الفكرية، وليس لحسم صراع إستراتيجي حقيقي.

إن تكفير تنظيم داعش لأي جهة تحكم في دمشق ولا تنضوي تحت لوائه؛ حتى لو كانت تحمل منطلقات أيديولوجية قريبة (كون الدائرة الحاكمة في السلطة الحاكمة الحالية تتبع هيئة تحرير الشام)، يعكس انتقالا في الصراع الجهادي من معركة ضد الأنظمة إلى معركة داخل المرجعية نفسها. فحين تتقاطع الخلفيات العقائدية وتتنافس على السيطرة، يُصبح الاختلاف في التوقيت أو التحالف السياسي سببا كافيا لإنتاج خطاب “الرِدّة”، وتبرير القتال.

بهذا المعنى، لا يواجه التنظيم خصما خارجيا فحسب، بقدر ما يعاني من تصدّع داخلي يُفقده القدرة على بناء خطاب تعبوي مقنع، ويحوّله إلى كيان مأزوم يغذي نفسه من خلال الاحتراب العقائدي.

◄ داعش يحاول استعادة صيغته القديمة في توظيف الفوضى، لكن هذه المرة ليس في وجه "الطاغوت" التقليدي المتمثل بـ”نظام الأسد”، وإنما في مشهد انتقالي متشظٍ

اللافت أن تصاعد العمليات الجهادية في مناطق متفرقة؛ من البادية إلى دير الزور فالرقة (في الشرق السوري) لم يكن مصحوبا بخطاب خلافي جديد، ولا بإعلان سياسي واضح. فالتنظيم لم يُعد الحديث عن “الدولة”، ولا عن بناء مجتمع بديل، بل اكتفى بمحاولات استعادة دوره عبر التفجيرات والاغتيالات. هذه العودة العنيفة، دون مشروع واضح، تكشف أنّ “داعش” بات يبحث من جديد عن الفوضى لذاتها، لأنها وحدها توفر البيئة التي تبرر استمراره.

لقد تخلّى التنظيم منذ سنوات عن خطاب الدولة والتمكين، وعاد إلى مربع الكمون والتخريب، مسجّلا حضورا وظيفيا أكثر من كونه مشروعا سياسيا. وهذا يعكس من جهة انسداد أفقه التعبوي، ومن جهة أخرى هشاشة البيئة الانتقالية التي لم تستطع حتى الآن إنتاج بدائل فكرية أو أمنية تقطع الطريق أمام عودة التنظيمات المتطرفة.

ويبدو أن التنظيم، كما لاحظ توماس هغهامر، قد تراجع من كونه “مشروع خلافة” إلى كونه “رد فعل قاتل على الفراغ”، ما يُدرج ضمن ما يسميه البعض “الجهادية ما بعد الطوباوية”.

في هذا المناخ، برزت السياسة الأميركية كفاعل يعيد توجيه أدواته بما يتماشى مع أولوياته الأمنية. لم يكن الانخراط الأميركي الجديد مع السلطة الانتقالية نتيجة تحول جذري ودائم في موقف واشنطن، وإنما يبدو أنه قد جاء بدافع مواجهة التنظيمات المصنفة إرهابية، وفي مقدمتها داعش.

هذا المدخل، الذي يستند إلى ضرورات الميدان، يُعبّر بوضوح عن غياب إستراتيجية سياسية أميركية متماسكة تجاه سوريا، ويطرح تساؤلات جدية حول مدى استدامة أي انفتاح لا يتجاوز البعد الأمني.

إنّ تعقيد المشهد السوري في مرحلته الانتقالية لا يكمن في حجم التحديات الأمنية فحسب، وإنما في التداخل البنيوي بين مظاهر العنف وسردياته المؤسسة. فتنظيم داعش لا يعيد إنتاج نفسه عبر السلاح فقط، وإنما عبر استثمار الفجوات المعرفية والسياسية التي تُبقي الخطاب الجهادي قابلا للتنشيط عند كل فراغ سلطوي.

7