"الغابة الزرقاء".. عالم تحكمه التفاهة وثقافة "الجوطابل"

حين استحضار “كرونولوجيا” العقود السالفة، وما تحتفظ به ذاكرتنا الجماعية من ذكريات تندرج تفاصيلها ضمن منسوب الموروث الثقافي، إلى جانب ما يرتبط به من أنماط عيش وسلوكات وتقاليد وطقوس وقيم، تشكل المشترك والرأسمال اللامادي لدى الأسر والمجتمعات، نستخلص ما مفاده عدم وجود أيّ أثر لما يصطلح عليه “بالغابة الزرقاء”، وما تطفح به من مواقع للتواصل الاجتماعي بمختلف تلاوينها وأصنافها، وتشابك عناكيب شبكاتها، وتناسل العديد من المنصات التي تبدع في القصف بمحتوياتها بشكل آني.
وتمطر هذه الشبكات المتلقي بمنسوب عال من الأحداث والوقائع وأشرطة الفيديو والتدوينات والشذرات، فضلا عن تبادل التحايا وتهاني أعياد الميلاد والمناسبات، وتقاسم البعض لصور حفلات الزفاف والأعراس ووصفات الطبخ وأصناف المأكولات، مرورا بوصلات من الرقص والغناء “المفترى عليها،” والقفز دون استحياء بأساليب يطبعها التنطع والفضول الزائد من قبل البعض على ميدان الكوميديا والتفكه والتقليد المفضوح والممسوخ، دون مراعاة واحترام للسجل الحافل للرواد من عباقرة الفن، الذين تركوا بصماتهم عبر مسارات لازالت خالدة ضمن “ريبيرتوار” الإبداع المتنور بتعدد أشكاله وأصنافه.
وفي المقابل نكاد نسجل ضمن حمولة هذه المنصات غياب أيّ نقاش فكري أو ثقافي عميق، يلامس قضايا المجتمع والشعوب، فيما يظل النقاش العمومي في شموليته وجدية جدواه في منأى عن هذه المنصات، مع تسجيل نزر قليل من بعض التجاذبات التي تفتقد إلى سياقات تاريخية ورؤى فلسفية وفكرية، ذات حمولات ومشروعية تاريخية رصينة وعميقة الأبعاد والدلالات.
◄ وجود كم هائل من منتوجات تتسم بالتفاهة والرداءة، تؤول نسب مشاهدتها والتفاعل معها، في المقابل تظل إنتاجات فكرية وثقافية وأكاديمية تحت طائلة حيز ضيق من التفاعل
لم نعد نشهد ضمن هذه المنصات مثيلا لتلك البرامج الحوارية ذات الطابع الثقافي أو السياسي، التي كانت تستضيف عبر وسائط أجهزة التلفزيون والراديو وجوها لامعة، ورموزا لها وزنها وحضورها اللافت، و”كاريزما” تستقطب المتتبع وتستهويه، وتسهم بشكل جدي في إغناء رصيده المعرفي والثقافي والفكري والسياسي.
وأمام هذا الاكتساح الجارف للمنصات المتناسلة كالفطر، وموازاة مع التدفق اللامحدود والمتسارع، والباعث على الضجر والقرف لمحتويات مكرورة ورتيبة وغير ذات جدوى، يجد المتلقي المتمنع نفسه بحسه النقدي ورؤاه المتبصرة، وسط زوبعة من الإحساس بالتيه وفقدان بوصلة التدقيق، في ما يتناسل من مجريات وتفاصيل، ووقائع تفوق وتيرة أيّ إيقاع محتمل، وتجعل ذاكرة الزمن متوقفة ومشدوهة أمام غياب المنطق والتفكير العقلاني.
ولعل استقراءات واستنتاجات العديد من القراء والمثقفين من مجايلي عقود ما قبل استحداث “الغابة الزرقاء”، والتنامي المفرط لمنصات الزمن “الغرائبي”، تحيل على نفس التقييمات والانطباعات، لتصنف تلك المحتويات ضمن صيرورة تاريخية تفرض نفسها بإلحاح، أمام تراجع نسب المقروئية وإنتاج الأعمال الجادة في مختلف الحقول المعرفية.
وتسجل الانطباعات ذاتها أن منطق التفاهة أضحى أمرا واقعا، وأن الرداءة تستفرد بالهامش الأكبر ممّا يروج ضمن منسوب هذه المنصات، وتفضي الاستقراءات نفسها إلى كون التفاعل غير المعقلن، وغير المنطقي مع تلك المنتوجات الموغلة في التفاهة من قبل مختلف الفئات العمرية، كان له بالغ الأثر على الوضع السيكولوجي للأطفال والناشئة بشكل عام، من خلال تراجع مساراتهم التربوية، فضلا عن الشرخ العميق الذي يطارد الأسر، حيث يغيب الحوار الفعلي والتجاذب المثمر، ليعم الصمت الرهيب داخل الأوساط الأسرية من خلال الانزواء الفردي والتفاعل المشوب بالكتمان.
◄ التطبيقات التكنولوجية تمطر المتلقي بمنسوب عال من الأحداث والوقائع وأشرطة الفيديو والتدوينات والشذرات، دون مراعاة واحترام للسجل الحافل للرواد من عباقرة الفن
عقب ذلك تتلاشى العديد من القيم والمبادئ، فتؤول الأوضاع إلى تصدع، قد يفضي في العديد من فصوله إلى تزايد حالات الانفصال الأسري والانقطاع المبكر عن الدراسة، وتنامي تمظهرات سلبية تدخل الأسر في دوامة من النزوع نحو الترقي الاجتماعي، والتطلع إلى النموذج البورجوازي،غير المستند إلى أسس ومقومات عقلانية، وقد تؤول بعض نماذجها إلى السقوط المدوي في مرمى الحالات “السيكوباتية”، لتلفظ تلك التفاهات بوتيرتها المتصاعدة وتعدد وتشابك خيوطها وعبثيتها والغياب الكامن وراء مراميها وأهدافها بما تبقى من القيم والقدرات العقلية نحو آفاق مجهولة.
ومن باب الإنصاف والأمانة التاريخية، وانسجاما مع الصيرورة المفتوحة لمواكبة تحديات التطور التكنولوجي، وسعيا إلى الانفتاح على ثقافات الشعوب والتفاعل الإيجابي مع ما تفرزه الظرفية من تلاقح فكري وثقافي وفني وأدبي، حيث لم تعد هناك حدود جغرافية أمام الإنتاجات التي تبدعها البشرية في شتى المجالات، فإن هذه المنصات ساهم البعض منها بشكل إيجابي في تيسير السبل وتقريب المسافات، إلى جانب إيصال المعلومة والصورة بشكل آني، الأمر الذي جعل العالم تحت مجهر هذه المنصات يتحول إلى قرية صغيرة.
إلا أن ما لا يمكن استساغته هو وجود كم هائل من منتوجات تتسم بالتفاهة والرداءة، تؤول نسب مشاهدتها والتفاعل معها إلى تسجيل ذروة بالغة وتحقق مؤشرات عالية، في المقابل تظل إنتاجات فكرية وثقافية ومساهمات أدبية وأكاديمية تحت طائلة حيز ضيق من التفاعل، قد تصل حد الإهمال، وتلك أعمق المفارقات التي أفرزها التدبير السيء لمنظومة التواصل عبر هذه التطبيقات، التي ينبغي التفاعل مع محتوياتها برؤية نقدية، ذات فعالية وموضوعية تستند إلى منطق له راهنيته وإنصافه، وحفاظه على المكتسبات في بعديها الزماني والمكاني ومنسوبها التراثي.
ليس العيب في تلك التطبيقات التي لا تعدو أن تكون مجرد آليات لتصريف إبداعات أو أفكار أو تواصل، لكن مؤشرات الإخفاق تتمظهر من خلال سوء التدبير لتلك التطبيقات التي تتطور بشكل آني، وتلتهم كمّا هائلا من التفاعلات والتعليقات في أزمنة قياسية خرافية.