"المتاحف" خط حماية الإرث الحضاري والثقافي خلال الأزمات

القاهرة - لا يقتصر دور المتاحف على كونها قاعات وساحات لعرض القطع الأثرية والتاريخية والمقتنيات واللوحات الفنية، بل إن دورها يتجاوز هذا المفهوم، حيث تعتبر حصونا حامية للذاكرة والتاريخ عند الحروب والأزمات، وصروحا عظيمة ذات مكانة ثقافية وحضارية كبيرة، تسرد تاريخ الإنسانية عبر السنين لتوثيقه حفاظا على ذاكرة الشعوب، وتمنح الفرصة لاكتشاف مراحل تطور الحضارات عبر الزمن.
وللمتاحف أهمية كبيرة في الربط بين الماضي والحاضر والمستقبل، كما أن لها دورا مهما كمؤسسة تساهم في رفع الوعي الثقافي والتاريخي وتحصين الهوية الثقافية وحماية الشخصية الوطنية، وتعزيز الانتماء والانفتاح على آفاق جديدة من خلال إثراء العقول وخلق مساحة للفكر والإبداع، إلى جانب أهميتها الكبيرة لقطاع السياحة.
وفي حين تقدم المتاحف خدمة كبيرة للإنسانية، إلا أنها قد تواجه بعض التحديات خلال الأزمات والنزاعات، إضافة إلى التحديات والمخاطر الناجمة عن الكوارث الطبيعية والتغيرات المناخية، التي تجعلها عرضة للتدمير أو السرقة أو التلف، وهنا يأتي دور المؤسسات والجهات المعنية بالدول في حماية المتاحف والاستعداد للحالات الطارئة.
وحول أهمية المتاحف ودورها في الحفاظ على الهوية الثقافية، قال عضو لجنة التاريخ بالمجلس الأعلى للثقافة رئيس حملة الدفاع عن الحضارة المصرية الدكتور عبدالرحيم ريحان “إن الدولة المصرية حققت طفرة غير مسبوقة بفضل توجيهات القيادة السياسية، في إنشاء المتاحف الجديدة وتطوير وترميم المتاحف الأثرية القديمة لتواكب عصر الاكتشافات الأثرية الذي يصقل التراث المصري والآثار يوما تلو الآخر، وأصبحت هذه المتاحف مراكز إشعاع للحفاظ على الهوية الثقافية.”
وأضاف أن فكرة إنشاء المتاحف الأثرية كالمتحف المصري الكبير والمتحف القومي للحضارة ومتحف عواصم مصر والمتاحف الأثرية بكفر الشيخ وشرم الشيخ والغردقة، تعد من المشاريع القومية المهمة التي يتم تنفيذها لتنشيط السياحة الثقافية ونشر الوعي الحضاري، ورسالة تنويرية تثقيفية للتعريف بقيمة الحضارة المصرية ودلالاتها.
وأشار ريحان إلى الدور العظيم للمتاحف وحسن توظيفها كمؤسسات ثقافية لمجابهة الغزو الفكري للشباب عامة من الأفكار التي تلعب على الهوية المصرية من وقت إلى آخر نتيجة الخواء الحضاري والفكري لبعض المجموعات التي تحاول التمسح بحضارة الآخرين، وتؤكد رسالة المتاحف الهوية والشخصية المصرية عبر العصور من خلال رسائل ملموسة ناطقة بمقتنيات متفردة تحكي قصة أعظم حضارة على وجه الأرض وهي الحضارة المصرية القديمة.
وفي ما يتعلق بحماية المتاحف وقت الأزمات، أوضح أن الإدارة العامة لإدارة الأزمات والكوارث بوزارة السياحة والآثار تقوم بعمل دورات تدريبية من وقت إلى آخر للعاملين بالوزارة بكل القطاعات بما فيها قطاع المتاحف، عن كيفية التعامل وقت الأزمات والكوارث للحفاظ على أنفسهم وحماية الآثار، والتدريب على التدابير الاحتياطية الواجب اتخاذها، لافتا إلى أن كل القطع الأثرية بالمتاحف المصرية مسجلة ولها أرقام وكود دولي، وفي حالة التعدي عليها أو سرقتها أو نهبها فمن السهل استرجاعها من أي مكان في العالم بمجرد ظهورها.
وفي سياق متصل، استضاف المكتب الإقليمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) في مصر والسودان بالتعاون مع المجلس الدولي للمتاحف، جلسة نقاشية تناولت دور المتاحف في الحفاظ على الهوية الثقافية خلال أوقات النزاع، والتحديات التي تواجهها المتاحف والفرص في حالات الطوارئ، وما تتعرض له من فقد وتضرر وخسائر للمقتنيات والعاملين، وتأكيد أهمية التأهب والتخطيط طويل الأمد كموضوع رئيسي، واتخاذ تدابير استجابة سريعة وفعالة في حالات الخطر.
وأكد المشاركون في الجلسة أنه حتى في أصعب الظروف واصلت المجتمعات إيجاد سبل لحماية التراث الثقافي وضمان استمراريته لمنح المواطنين شعورا بالانتماء، موضحين أن الاستخدام المبتكر للتكنولوجيا لعب دورا حاسما من خلال التوثيق الرقمي والمتاحف الافتراضية والأرشيفات الإلكترونية كأدوات رئيسية في الحفاظ على الذاكرة الثقافية، إضافة إلى مكافحة الاتجار غير المشروع.
وشددت توصيات الجلسة على الحاجة الملحة إلى تعزيز بروتوكولات الطوارئ وتأمين الموارد ودعم عمل المتخصصين الثقافيين على أرض الواقع، فيما أكدت “يونسكو” مجددا التزامها ببناء المرونة المؤسسية وتعزيز تبادل المعرفة وضمان بقاء المتاحف مساحات حيوية للحوار والتأمل والتماسك الاجتماعي، حتى في أصعب السياقات، فحماية التراث في أوقات الأزمات لا تقتصر على الحفاظ على الماضي فحسب، بل تشمل أيضا صون الهوية والكرامة والأمل في مستقبل مشترك.
وخلال الحروب، تلعب المتاحف دورا حاسما في حماية الإرث الثقافي، حيث قد تبادر إدارات المتاحف إلى نقل الكنوز الأثرية والقطع الفنية إلى أماكن آمنة لحمايتها من السرقة أو القصف أو التخريب، وهي إجراءات تُعرف بـ”الإخلاء الثقافي”، كما حدث خلال الحرب العالمية الثانية عندما أُخفيت أعمال من متحف اللوفر في أماكن سرية.
كما تقوم المتاحف بتوثيق المجموعات وتوثيق كل تفاصيلها من صور، وأوصاف، وقياسات، وأرقام تسلسلية، مما يساعد في استعادة القطع لاحقا في حال سُرقت أو فُقدت، ويعد هذا التوثيق الدقيق سلاحا ضد النهب والتجارة غير المشروعة بالآثار.
وخلال السنوات القليلة الماضية، أدخلت المتاحف التوثيق الرقمي كسلاح لحماية الأعمال الفنية، حيث تقوم المتاحف بمسح ثلاثي الأبعاد للقطع، ما يضمن إمكانية إعادة بناء بعض المعالم أو القطع في حال دُمرت.
كما تلعب المتاحف دورا في نشر الوعي حول أهمية حماية التراث الثقافي، وتضغط على الحكومات والمنظمات الدولية لتفعيل القوانين المتعلقة بحماية الممتلكات الثقافية، مثل اتفاقية لاهاي لعام 1954.
كما أن بعض المتاحف تقوم بجمع شهادات شهود العيان والناجين من الحروب، لتوثيق المعاناة الإنسانية وربطها بالسياق الثقافي، ما يعزز من سردية الشعوب ويمنع محوها.