حماس في مهب الريح

إنها ليست مجرد مرحلة عابرة في تاريخ الصراع بل هي تحول إستراتيجي عميق يعيد تشكيل خارطة القوى ويضع علامات استفهام كبرى حول مستقبل المقاومة الفلسطينية في غزة.
الخميس 2025/06/19
الورقة الإيرانية الأخيرة

تتوالى فصول المشهد الإقليمي المتأزم لتكشف عن تحولات جذرية في خارطة التحالفات، تاركةً حركة حماس الفلسطينية في مهبّ الريح، في ظل انسحاب متزايد لحلفائها التقليديين، إيران وحزب الله، فحركة حماس، التي لطالما اعتادت أن تتكئ على أذرع تمتد لها من خلف الحدود، تجد نفسها اليوم قاب قوسين أو أدنى من العزلة المطلقة، في مواجهة شبه منفردة مع آلة حرب لا ترحم. إنها ليست مجرد مرحلة عابرة في تاريخ الصراع، بل هي تحول إستراتيجي عميق يعيد تشكيل خارطة القوى، ويضع علامات استفهام كبرى حول مستقبل المقاومة الفلسطينية في غزة.

عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر 2023 ليست مجرد حدث عسكري عابر، بل كانت زلزالاً هز المنطقة بأسرها. وما تلاها من ردود فعل إسرائيلية وحشية في غزة، كشف عن عمق التغيرات في بنية العلاقات الإقليمية. فبينما كانت حماس تخوض حرب وجود على أرض القطاع المحاصر، كان حلفاؤها، الذين طالما رفعت شعار “محور المقاومة” عاليا، يعيدون تقييم مواقفهم. واليوم، وبعد ما يزيد عن عشرين شهرا من الصراع الدموي، تبدو الصورة أكثر وضوحا: حماس تُركت وحدها.

لقد كان حزب الله اللبناني، الذراع القوية لإيران في المنطقة، هو المرآة التي عكست هذا التراجع بوضوح مؤلم. فبعد أن فتح جبهة إسناد من جنوب لبنان لدعم غزة، ظن الكثيرون أن هذه الخطوة ستقود إلى حرب إقليمية شاملة تخفف الضغط عن القطاع. لكن ما حدث كان مغايرا تماما. فالحزب دفع ثمنا باهظا، ليس فقط في الأرواح والخسائر المادية التي طالت قادته ومناطق نفوذه، بل في تآكل صورته كقوة ردعية قادرة على تغيير قواعد اللعبة. الضربات الإسرائيلية التي طالت عمق لبنان، ووصلت إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، لم تقابل برد قاس يوازي حجم الاعتداء. والأهم من ذلك، هو اتفاق وقف إطلاق النار الذي فرض عليه شروطا قاسية، كالانسحاب من مناطق حدودية وتفكيك بعض منشآته العسكرية. هذا التطور، وإن لم يعن إنهاء دور الحزب بالكامل، إلا أنه يشير بوضوح إلى أولوية الحفاظ على الكيان الداخلي للحزب ولبنان على حساب التورط الكلي في حرب قد تكون نتائجها كارثية على الجميع. إنها رسالة ضمنية، وليست أقل وضوحا من التصريح المباشر، بأن سقف الدعم قد بلغ منتهاه.

◄ حماس اليوم، ليست مجرد حركة محاصرة عسكريا وجغرافيا، بل هي حركة تعاني من عزلة سياسية وإستراتيجية غير مسبوقة

وفي قلب هذا المشهد المتغير، يبرز التصعيد الأخير بين إسرائيل وإيران كفصل محوري يلقي بظلاله على إستراتيجيات جميع الأطراف. فبعد أشهر من التوتر المتزايد والضربات المتبادلة في الظل، بلغت المواجهة ذروتها في تبادل مباشر للضربات، وإن كان بوتيرة محسوبة على ما يبدو. لقد شنت إسرائيل ما وصفته بعملية استهدفت أهدافا حساسة داخل الأراضي الإيرانية، في رسالة واضحة تهدف إلى ردع طهران وتقويض قدراتها الإقليمية. وفي المقابل، جاء الرد الإيراني، رغم التهديدات المتبادلة، محدودا ومحسوبا، مشيرا إلى رغبة ضمنية في احتواء التصعيد ومنع الانزلاق إلى حرب إقليمية شاملة قد تشعل المنطقة بأسرها. هذه “المواجهة المحكومة”، التي تحاول الأطراف من خلالها إرسال رسائل قوة دون تجاوز الخطوط الحمراء، تعيد رسم قواعد الاشتباك وتلقي بعبء إضافي على حماس، التي تجد نفسها في مرمى النيران دون دعم كامل من حلفاء باتوا أكثر حرصا على مصالحهم الإستراتيجية الخاصة في ظل هذه الديناميكية الجديدة.

وفي اليمن، حيث تشكل جماعة الحوثيين اليوم “الورقة الإيرانية الأخيرة” التي لا تزال تمتلك بعض القدرة على إحداث الإزعاج في البحر الأحمر واستفزاز إسرائيل وداعميها، فإن تأثيرها على مجريات الحرب في غزة يبدو محدودا للغاية. فقدرة الحوثيين، وإن كانت تشكل تهديدا للملاحة الدولية، لا ترقى إلى مستوى تغيير المعادلة على الأرض في القطاع المحاصر. هذا يعني أن الرهان على أيّ دعم جوهري قادم من هذه الجبهة لحماس هو رهان واه، لا يمكن أن يعوض انسحاب أو تراجع الدور الذي لعبه حلفاء آخرون.

إن إستراتيجية تحييد النفوذ الإيراني وأذرعه، التي تبنتها الولايات المتحدة وإسرائيل لسنوات، تبدو اليوم وقد بدأت تؤتي أكلها. ففكرة “المحور” الذي يمتد من طهران إلى بيروت وغزة وصنعاء، والذي كان يرعب خصومه، تبدو اليوم أضعف بكثير ممّا كانت عليه. كل طرف في هذا المحور بات يواجه تحديات داخلية تجبره على إعادة ترتيب أولوياته، وتضع مصالحه الذاتية فوق أيّ التزام كامل تجاه حليف بات محاصرا ومنهكا.

حماس اليوم، ليست مجرد حركة محاصرة عسكريا وجغرافيا، بل هي حركة تعاني من عزلة سياسية وإستراتيجية غير مسبوقة. المستقبل القريب يبدو قاتما، والخيارات المتاحة أمامها قليلة ومحفوفة بالمخاطر. فكيف ستواجه الحركة هذه العزلة المتفاقمة؟ وهل ستتمكن من إيجاد سبل جديدة للصمود في ظل تراجع دعم لطالما كان شريانا حيويا لها؟ الأسئلة تتوالى وتتراكم، والإجابات تظل معلّقة في أفق مضطرب، لا يبشر بالخير لأهلنا في غزة، ولا لحركة باتت تصارع مصيرها وحيدة في عين العاصفة.

 

اقرأ أيضا:

       • حرب لا ناقة للفلسطينيين فيها ولا جمل

9