فوضى المساعدات.. كيف تسرق الحياة في غزة؟

تتوالى فصول المأساة في قطاع غزة يومًا بعد يوم، كاشفةً للعالم عن وجه آخر من وجوه المعاناة، لا يقل قسوة عن الحصار المستمر والقصف المتواصل. فبينما يئن القطاع تحت وطأة آلة الحرب الإسرائيلية التي لا ترحم، تتفشى فوضى عارمة في شرايين الحياة القليلة المتبقية، وهي مراكز توزيع المساعدات الإنسانية. لم يعد الأمر مجرد نقص في الإمدادات، بل تحوّل إلى صراع بقاء، تتداخل فيه أيادي السيطرة الداخلية مع نيران الاستهداف الخارجية، ليصبح فعل الإغاثة نفسه معركة دامية.
تشير التقارير الواردة من الميدان إلى صورة قاتمة؛ حركة حماس تفرض سيطرتها المطلقة على كميات ضخمة من المساعدات الإنسانية. هذه المساعدات، التي تُقدمها الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية لتخفيف معاناة شعب أنهكه الجوع والعطش والمرض، تُحوَّل قسرًا إلى مستودعات مغلقة تحت سيطرة الحركة. هذا ليس مجرد “خطأ” أو “فوضى عفوية”، بل هو استيلاء ممنهج يهدف إلى إحكام القبضة على الموارد، وتحويلها إلى أداة ضغط أو مكسب في سياق يائس.
الأدهى من ذلك، هو استخدام عناصر حماس للعنف والتهديد لمنع المدنيين اليائسين من الوصول إلى هذه المساعدات. صور التدافع والضرب، وصرخات الجائعين، لا تدل إلا على استعراض للقوة يهدف إلى إخضاع السكان، وإجبارهم على الانصياع لرواية الحركة وخططها. ففي الوقت الذي يتضور فيه الآلاف من الأطفال جوعا، وتنهار فيه المستشفيات بسبب نقص الإمدادات، تتحول شاحنات المساعدات إلى أهداف للنهب أو التخزين، بدلا من أن تكون شريان حياة يتدفق بالرحمة. هذا الفعل لا يمثل انتهاكا للمبادئ الإنسانية فحسب، بل هو تفاقم للكارثة من الداخل، يزيد من بؤس شعب أصبح رهينة لسياسات القوة.
◄ في غزة، لم يعد النزاع يدور حول أراض أو سياسات، بل حول بقاء شعب بأكمله، وهو ما يستدعي تدخلا عاجلا لإنقاذ ما تبقى من إنسانية
هذه الفوضى العارمة والسيطرة بالقوة لم تمر مرور الكرام على الجهات الدولية. فقد اضطرت شركة أميركية، من بين العديد من المنظمات الإنسانية، إلى تعليق عملياتها في القطاع. هذا القرار ليس مجرد توقف مؤقت لنشاط إغاثي، بل هو ناقوس خطر مدوّ يدق ليُعلن أن البيئة في غزة أصبحت غير آمنة حتى للمساعدين. فعندما يجد العاملون في المجال الإنساني أنفسهم هدفا للتهديد أو العنف، وعندما تُسرق أو تُحوَّل المساعدات التي يحاولون إيصالها، يصبح استمرار العمل مستحيلا.
تداعيات هذا التعليق وخيمة؛ فكل منظمة إغاثة تنسحب، وكل شحنة مساعدات تتوقف، تعني المزيد من الجوع، والمزيد من المرض، والمزيد من الموت لأهالي القطاع. إنها ضربة قاصمة للأمل الهش الذي كان يراود الكثيرين بوصول بعض الدعم. هذا الانسحاب يسلط الضوء أيضا على فشل الأطراف المسيطرة في توفير بيئة آمنة للمنظمات الإنسانية، ويضع مسؤولية أخلاقية وسياسية ضخمة على عاتقها.
هذه الممارسات، وإن كانت تُنسب لحماس رسميا، لا تعفي إسرائيل من مسؤوليتها عن صنع الأزمة من الأساس. فالحصار المطوّل، وتعطيل عمل منظمات الإغاثة عبر تعقيد الإجراءات الأمنية، والاستهداف المباشر لمراكز التوزيع (كما حدث مع برنامج الأغذية العالمي)، يجعل إسرائيل شريكا في تعميق الكارثة. فالمساعدات التي تصل بشق الأنفس، وبعد عناء طويل من المعابر الحدودية، تصبح عرضة للقصف الإسرائيلي الذي لا يفرق بين مقاتل ومدني، ولا يُميّز بين مستودع سلاح ومركز توزيع مساعدات. إن استهداف قوافل الإغاثة، أو مناطق تجمع المدنيين للحصول على المساعدات، أو حتى البنية التحتية الأساسية التي تخدم توصيلها، يُعد انتهاكا صارخا للقوانين الدولية الإنسانية.
هذا الاستهداف الممنهج، بالإضافة إلى تضييق الخناق على المعابر وتقييد دخول المساعدات، يُمثل حصارا مميتا من الخارج. فكيف يمكن لأي جهة إنسانية أن تعمل بفاعلية عندما يكون موظفوها ومخازنها وقوافلها عرضة للقصف في أي لحظة؟ هذا السلوك يضع عبئا إضافيا على كاهل المنظمات الإنسانية، ويُصعّب من مهمتها بشكل غير مسبوق، ويدفع بقطاع غزة نحو هاوية مجاعة كارثية.
إن هذا المشهد المأساوي يتطلب وقفة جادة ومسؤولية أخلاقية وسياسية من المجتمع الدولي بأكمله. فالمأساة أصبحت تكمن في أن الفلسطيني في غزة أصبح رهينة ثلاثي الموت؛ استهداف إسرائيلي، انقسام فلسطيني، وعجز دولي. ولا يمكن للعالم أن يظل صامتا أمام هذه الجرائم الإنسانية المتعددة. يجب الضغط الفوري على كافة الأطراف لضمان وصول المساعدات الإنسانية بأمان ودون عوائق إلى كل من يحتاجها، بعيدا عن سياسات الاستغلال أو الاستهداف. ففي غزة، لم يعد النزاع يدور حول أراض أو سياسات، بل حول بقاء شعب بأكمله، وهو ما يستدعي تدخلا عاجلا لإنقاذ ما تبقى من إنسانية.