التقلبات العالمية الحادة تغذي الجدل بشأن كسر هيمنة العملة الأميركية

ضعف قيمة الدولار ينهي جفاف ديون الأسواق الناشئة بالعملات المحلية.
الخميس 2025/06/19
الصدمات عنوان سلسلة المؤشرات السلبية

في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية، وتزايد الأزمات الاقتصادية العالمية، عاد الجدل حول مستقبل هيمنة الدولار الأميركي إلى الواجهة بقوة، حيث بات جزءًا من نقاشات أوسع حول إعادة تشكيل النظام النقدي العالمي لبناء نموذج أكثر تنوعا وتوازنا، بما يخدم التجارة والاقتصاد.

شنغهاي (الصين)- عرض صناع القرار النقدي في الصين أوضح رؤية لهم حتى الآن بشأن مستقبل النظام النقدي العالمي، بعد عقود من هيمنة الدولار، متوقعين ترسخ نظام أكثر تنافسية في السنوات المقبلة.

وبينما كانت هذه العملة لعقود الركيزة الأساسية للنظام المالي الدولي، بدأت تقلبات الأسواق والعقوبات الأميركية الواسعة، وتنامي نفوذ قوى اقتصادية صاعدة، تدفع العديد من الدول إلى البحث عن بدائل تقلل من اعتمادها على الدولار.

وقال محافظ البنك المركزي الصيني بان قونغ شنغ في كلمته خلال منتدى لوجياتسوي السنوي في شنغهاي الأربعاء “قد يواصل النظام النقدي العالمي التطور في المستقبل نحو وضع تتعايش فيه عدة عملات سيادية، تتنافس فيما بينها، وتكبح وتوازن بعضها البعض.”

بان قونغ شنغ: نظام نقدي بنمط متعدد الأقطاب قد يجعله أكثر متانة

وأضاف أن “الوضع الذي تهيمن فيه عملة سيادية واحدة على المدفوعات يشهد تحولا تدريجيا.” وأشار إلى أن هناك نقاشات جارية حول العالم بشأن تقليص الاعتماد المفرط على عملة واحدة، مؤكدا أن “مكانة اليوان العالمية قد تعززت خلال السنوات الأخيرة.”

وتراجعت الثقة في الولايات المتحدة بعد أشهر من السياسات المتقلبة التي انتهجها الرئيس دونالد ترمب منذ عودته إلى منصب الرئاسة في يناير الماضي.

وتخضع الحكومات والبنوك والشركات متعددة الجنسيات لرحمة واشنطن التي تملك السلطة القانونية لمنع دخول أي شركة أو دولة إلى الاقتصاد العالمي في حال وجود خلاف بينها وبين الولايات المتحدة.

ولكن بسبب السياسة الاقتصادية الأميركية المتقلبة، قلل المستثمرون العالميون من انكشافهم على الأصول المقومة بالدولار في الأشهر القليلة الماضية، لكن عددا كبيرا منهم لجأ إلى الذهب نظرا لعدم وجود بديل مباشر.

وهذا الوضع دفع رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد الشهر الماضي إلى الدعوة إلى اغتنام اللحظة وتعزيز مكانة اليورو على الساحة العالمية.

وحذّرت أثناء محاضرة ألقتها في كلية هرتي للحوكمة في برلين من أن النظام الاقتصادي العالمي المدعوم بالدولار “يتصدّع”. وقالت إن دعم واشنطن لنظام دولي قائم على القواعد والدولار كعملة احتياط “مهّد الطريق لازدهار التجارة والنمو المالي.”

وتسعى الصين إلى ترسيخ مكانة اليوان كمنافس للدولار الأميركي، ضمن جهود يقودها الرئيس شي جينبينغ لتصبح بلاده قوة مالية لديها عملة مستقرة تؤهلها للعب دور متزايد في التجارة العالمية، خاصة مع تصاعد التوترات مع الولايات المتحدة.

وعززت مخاطر الرسوم هذا العام من زخم تلك الجهود، إذ طلب بعض المصدّرين الأميركيين تسوية معاملاتهم بعملات بديلة، من بينها اليوان، للحد من تأثير تقلبات الدولار، بحسب ما ذكره مسؤول في بنك يو.أس بانكورب لوكالة بلومبيرغ، لم تذكر هويته. ويرى بان أن تطور النظام النقدي العالمي نحو نمط متعدد الأقطاب يمكن أن يجعله أكثر متانة، ويساهم في تعزيز الاستقرار المالي العالمي، كما قد يدفع الدول إلى تحسين انضباطها في السياسات الاقتصادية.

جوني غولدن: نشهد نقطة تحول في عملية شراء الديون السيادية محليا

وكشف أن من بين الخيارات المطروحة لتقليص هيمنة عملة واحدة، مثل الدولار، تعزيز استخدام عملة عالمية محايدة، مشيرا إلى أن “حقوق السحب الخاصة” تخضع للدراسة كخيار مناسب، كونها أصولا احتياطية يصدرها صندوق النقد الدولي.

لكنه أكد أن هناك غيابا للتوافق بشأن الترويج لحقوق السحب الخاصة كعملة دولية، وأنه ينبغي إصدارها بشكل منتظم وبحجم أكبر لتحقيق هذا الهدف، نظرا لأنها تُستخدم حاليا في أوقات الأزمات فقط.

ويُسهم ضعف قيمة الدولار، الذي يهيمن على 58 في المئة من الاحتياطيات النقدية العالمية، في رفع قيمة فئة أصول مهملة منذ فترة طويلة وهي ديون الأسواق الناشئة بالعملة المحلية بعد جفاف استمر لأكثر من عقد.

وشهدت صناديق سندات الأسواق الناشئة بالعملة المحلية رقما قياسيا جديدا في التدفقات الداخلة خلال الأسبوع المنتهي الأربعاء، وفقا لبيانات منصة إي.بي.أف.آر، مسجلةً ثمانية أسابيع متتالية من التدفقات الداخلة.

وإلى غاية الآن لا تزال التدفقات الناشئة ضئيلة كما أن حالة عدم اليقين بشأن الرسوم الجمركية والحرب والاضطرابات العالمية الأخرى تُكبح بعض التدفقات.

لكن المستثمرين يتوقعون استمرارها، وهو ما يُعطي دفعة لأسواق الدين المحلية في الأسواق الناشئة الكبيرة من البرازيل والمكسيك إلى إندونيسيا والهند.

وقال جوني غولدن، رئيس إستراتيجية الدخل الثابت في الأسواق الناشئة في بنك جي.بي مورغان، لرويترز “تُشير العديد من الأسواق الناشئة الكبيرة إلى وجود عمليات شراء أجنبية للديون، وهذا بدأ يتزايد في بعض الدول.” وأضاف “قد يكون هذا نقطة تحول محتملة.”

ووصلت عوائد مؤشر جي.بي مورغان جي.بي.آي للعملات المحلية في الأسواق الناشئة إلى أدنى مستوياتها منذ عام 2022، ويعزى ذلك جزئيا إلى تدفقات النقد الدولي.

كارلوس دي سوزا: خلال هذا العام كان أداء العملات المحلية جيدا للغاية

وقد حققت سندات الحكومات بالعملات المحلية في الأسواق الناشئة عوائد تجاوزت 10 في المئة منذ بداية العام الحالي، أي أكثر من ضعف عوائد العملات الأجنبية النظيرة البالغة حوالي 4 في المئة، وفقا لمؤشرات جي.بي مورغان.

ويدفع ضعف العملة الأميركية، والتساؤلات حول تداولات “الاستثناء الأميركي” التي استمرت لسنوات عندما استثمر المستثمرون أموالهم في أصول مزدهرة لأكبر اقتصاد في العالم، المستثمرين الدوليين إلى البحث عن عوائد أعلى في أسواق أخرى.

وانخفضت قيمة الدولار إلى أدنى مستوى له في أكثر من ثلاث سنوات الأسبوع الماضي. وكان قد خسرت أكثر من 8 في المئة حتى الآن خلال العام الجاري بسبب تراجع الثقة في الاقتصاد الأميركي الناجم عن سياسات الرئيس دونالد ترامب التجارية.

ويفاقم تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي وانخفاض أسعار الفائدة في جميع أنحاء العالم المتقدم من البحث عن العوائد.

وقال لوكا باوليني، كبير الإستراتيجيين في شركة بيكتيت لإدارة الأصول، “سيكون الدولار أضعف بكثير. ستنخفض عائدات السندات أو أسعار الفائدة،

مما يدفع إلى البحث عن عائد.” وأضاف أن “سندات الأسواق الناشئة ستكون من أبرز المستفيدين من هذا الزخم.”

وتساهم هذه الديناميكيات مجتمعة في إنهاء هروب المستثمرين الأجانب من سندات العملات المحلية في الأسواق الناشئة، والذي قال غولدن إنه “استمر لنحو 14 عاما.”

وخلال تلك الفترة، تشير تقديرات جي.بي مورغان إلى أن فئة الأصول تضاعفت من نحو 6 تريليونات  دولار إلى 13 تريليون دولار، مع إقبال المستثمرين المحليين بشكل رئيسي، وبعض صناديق السندات العالمية، على الشراء.

وصرح ديفيد هاونر، رئيس إستراتيجية الدخل الثابت للأسواق الناشئة العالمية في بنك أوف أميركا، بأن بعد سنوات من صعود الدولار، وتداولات الاستثناء الأميركي، وصلت مخصصات الأسواق الناشئة إلى “أدنى مستوياتها” وكان لديها مجال كبير للنمو.

وقال “لقد أُهمِل هذا الأمر تماما لفترة طويلة، والآن، على الناس تنويع استثماراتهم.” ويتوقع تدفقات صغيرة ولكن ثابتة وعوائد ثنائية الرقم على العملات المحلية بنهاية العام بالدولار.

وتُعدّ هذه الأموال جزءًا من الجهود العالمية المُتابعة عن كثب من قِبَل بعض المستثمرين الدوليين لتنويع استثماراتهم بعيدًا عن حيازات الدولار والأصول الأميركية، بعد سنوات من العوائد الضخمة التي اجتذبت الجزء الأكبر من النقد العالمي.

◄ 58 في المئة نسبة حيازة البنوك المركزية حول العالم من الدولارات الأميركية، وفق التقديرات المتاحة
58 في المئة نسبة حيازة البنوك المركزية حول العالم من الدولارات الأميركية، وفق التقديرات المتاحة

وقال كارلوس دي سوزا، مدير المحافظ في شركة فونتوبل “هذا العام وحتى الآن، كان أداء العملات المحلية جيدًا للغاية.” وأضاف “هذا تأثير مباشر وتلقائي حقًا” لانخفاض قيمة الدولار.

كما أن حقيقة أن معظم البنوك المركزية في الأسواق الناشئة تسير على مسار خفض الفائدة بشكل عام، حتى مع تباين توقعات إجراءات الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي) تعزز الزخم أيضا.

ووصف فينيكس كالين، الرئيس العالمي لأبحاث الأسواق الناشئة في بنك سوسيتيه جنرال الفرنسي، هذه الفترة بأنها “لحظة نادرة من الاعتدال للأصول المحلية”.

وقال كالين إن سندات العملات المحلية تُقدم “قيمة مغرية”، بما في ذلك في الفلبين وجمهورية التشيك والمجر وجنوب أفريقيا وتركيا والبرازيل وكولومبيا.

ويرى غولدن وهاونر وآخرون أن التحول الحالي لم يُحقق حتى الآن أي تقدم يُذكر في عكس مسار التدفقات الخارجة، وقال هاونر إنها أقرب إلى “قطرة” منها إلى فيضان. ولكن حتى التدفقات الصغيرة يُمكن أن تُحدث تأثيرا هائلا.

وأضاف “الأسواق الناشئة كفئة أصول أصغر بكثير. لذا، إذا سحبنا واحدا في المئة من الولايات المتحدة، فإن ذلك يعادل 20 في المئة في الأسواق الناشئة. بالتالي قد يكون تأثير هذا التدفق ذا دلالة كبيرة.”

11