نايلة التازي: احترام الأصل والانفتاح الذكي وراء نجاح مهرجان كناوة

مهرجان كناوة ينخرط في تفكير أوسع حول الاقتصاد الثقافي بالمغرب.
الأربعاء 2025/06/18
الثقافة والاستثمار فيها لم يعودا ترفا

الرباط - باحتضانها الدورة السادسة والعشرين لمهرجان كناوة وموسيقى العالم، تتحول مدينة الصويرة إلى منصة عالمية للتلاقح الموسيقي والحوار الثقافي، حيث يتجاوز هذا الحدث مفهوم المهرجان التقليدي ليصبح تجربة روحية وإنسانية شاملة، إذ يجتمع معلمو فن كناوة – حماة التراث الروحي المغربي الأصيل – مع نجوم الموسيقى العالمية.

وفي هذا السياق، تؤكد منتجة المهرجان، نايلة التازي، أن “الثقافة اليوم لم تعد ترفا في السياسة الدولية، بل لقد صارت أداة إستراتيجية للنفوذ الناعم. فجميع الدول تتسابق حاليا لتسويق منتوجاتها الثقافية، لأن المنتج الثقافي صار بوابة التموقع في الصدارة، وهذا ما أدركه المغرب مبكراً. فمهرجان كناوة وموسيقى العالم ليس فقط احتفالاً فنياً، بل هو تعبير ملموس عن رؤية مغربية تؤمن أن التنوع الثقافي هو أساس الوحدة الوطنية، وهو أيضاً جسر لتموقع المغرب كقوة ثقافية صاعدة على الساحة الدولية.”

وشددت المتحدثة في حوار مع وكالة الأنباء المغربية على أنه “من خلال هذا المهرجان، يعيد المغرب تقديم أفريقيا للعالم، ليس من موقع المستهلك للثقافة العالمية، بل كفاعل منتج ومصدر للمعنى والقيم. إنها دبلوماسية ثقافية قائمة على الاعتراف بجذورنا الأفريقية العميقة وعلى تقديم سردية جديدة للقارة: أفريقيا الروحانية، والمبدعة، والممانعة، التي تستعيد مكانتها كفاعل سياسي وثقافي في معادلات العالم الجديد.”

i

ويكتب مهرجان كناوة هذا العام صفحة دورته السادسة والعشرين، إذ يعد نموذجا في الاستمرارية. عن السر في ذلك وكيف تحافظون على هوية فريدة في المشهد الثقافي المغربي والدولي؟ تقول التازي: “بالفعل، مهرجان كناوة مناسبة ثقافية ذات هوية فريدة وهذا هو سر استمراريته الأول. فهو مشروع يحمل قناعة فلسفية متينة، وليس مجرد تظاهرة موسمية. إذ منذ البداية، كان المهرجان مشروعا ثقافيا وطنيا بامتياز، يسعى إلى صون هوية مغربية أصيلة، تنفتح على العالم دون أن تذوب فيه. فنحن لا نستهلك العولمة الثقافية، بل نصنع عولمتنا الخاصة المستندة إلى تاريخنا وذاكرتنا.”

وترى منتجة المهرجان أنه “وسط عالم يتزايد فيه التجانس الثقافي القسري، يشكل المهرجان فعلا واعيا يحمي الخصوصية المغربية ويجددها، واضعا في قلبها أفريقيا كخزان للمعنى والذاكرة، ومدافعا عن حق الجنوب في أن يكون مصدرا للثقافة لا مجرد سوق لها.”

وقد يتساءل البعض كيف نجح المهرجان في الحفاظ على أصالة فن معلمي كناوة، وفي الوقت نفسه توسيع جمهوره ودمج موسيقات العالم في برنامجه الغني؟ إلا أن التازي تقول إن “معادلة الاستمرار بسيطة ومعقدة في آن واحد: احترام الأصل والانفتاح الذكي على العالم. ‘معلمية كناوة’ ليسوا مجرد رموز فولكلورية بل هم حراس لذاكرة قاومت النسيان عبر قرون. لذلك نتعامل مع هذا الفن كجزء من مقاومة ثقافية مستمرة؛ مقاومة للنمطية، للفراغ الروحي، والاختزال الإعلامي الغربي لأفريقيا.”

كما شددت على أن “التمازج مع موسيقات العالم لا يفرغ فن كناوة من محتواه، بل يمنحه أفقا عالميا ينقل من خلاله رسائل الهوية، والعدالة، والروحانية التي ولدت أصلاً في رحم معاناة تاريخية عميقة مثل تجارة الرقيق والشتات في أفريقيا. بهذا المعنى، يتحول المهرجان إلى فعل مقاومة ناعم وعميق.”

وينخرط مهرجان كناوة أيضا في تفكير أوسع حول الاقتصاد الثقافي بالمغرب. وهو ما تقول عنه المنتجة إنه “أثبت أن الثقافة ليست مجرد منتج رمزي، بل رافعة تنموية حقيقية. إذ ساهم في ولادة قطاع الصناعات الثقافية والإبداعية في المغرب، وهو قطاع يحمل مستقبلا واعدا في معادلة التشغيل والنمو سيجني منه بلدنا الكثير إذا استثمر بكيفية أكثر استباقية وشجاعة في هذا القطاع.”

المغرب يعيد تقديم أفريقيا للعالم ليس من موقع المستهلك للثقافة العالمية بل كفاعل منتج ومصدر للمعنى والقيم

وترى التازي أننا “نعيش اليوم تحولات كبرى حيث تزداد أهمية ‘السيادة الثقافية’ كعنصر من عناصر الأمن الوطني، ليس فقط على مستوى الهوية، بل حتى في معادلة الاقتصاد السياسي الدولي. والمغرب، من خلال تراكماته الثقافية وريادته في مشاريع مثل مهرجان كناوة، يمتلك فرصة ليصبح قوة ناعمة إفريقية-أورومتوسطية ذات إشعاع عالمي.”

وتطرقت المنتجة إلى مبادرة منتدى حقوق الإنسان وكيف تسهم في إغناء المشروع الشامل للمهرجان، حيث اعتبرت أن “منتدى حقوق الإنسان ليس مجرد نشاط مواز بل هو القلب النابض للرؤية العامة للمهرجان. فنحن لا ننظم مهرجانا للفرجة، بل نبني فضاء حيويا للنقاش العمومي حول قضايا جوهرية ترتبط بالمستقبل السياسي والاجتماعي للمغرب ولأفريقيا والعالم: الهجرة، الشتات، الهوية، المساواة، الشباب، المقاومة الثقافية. وبهذا المعنى، يتحول المهرجان إلى منصة للمواطنة الكونية حيث تلتقي الثقافة مع السياسة، والذاكرة مع المستقبل، والمغرب مع العالم. إنه مختبر حي لصناعة سياسات ثقافية جديدة.”

من ناحية أخرى، يبرز برنامج “بيركلي في مهرجان كناوة” كشراكة أكاديمية دولية واعدة مع كلية بيركلي للموسيقى. وتقول التازي عنه إنه “يمثل جسرا حقيقيا بين الموسيقى العالمية والتميز الأكاديمي الدولي. إذ يتيح البرنامج الفرصة للمشاركين للمساهمة في ورش عمل يقودها أساتذة بارزون واكتشاف مناهج موسيقية جديدة. كما يوفر فرصة للمواهب المغربية لتطوير شبكاتها المهنية والعمل على تحقيق طموحها في مسيرة مهنية دولية.”

وذكرت بأن “النسخة الأولى لاقت نجاحا كبيرا، حيث شارك 44 مشاركا من 10 دول. وخلال الدورة المقبلة ستستضيف النسخة الثانية 74 مشاركا من 24 دولة، مما يبرز البعد الدولي للبرنامج والمهرجان. هذا البرنامج يساهم أيضا في تعزيز قيمة الموسيقى الكناوية في الأوساط الأكاديمية الدولية وإبراز مكانة الموسيقى الأفريقية في ممارسات التدريب والإبداع على المستوى العالمي. البرنامج، إذن، فرصة لتوثيق الموسيقى الكناوية، وتحليلها، ونقلها في سياقات جامعية، وبالتالي الحفاظ عليها، وإثرائها والمساهمة في تألقها.”

وشددت على أن هذا البرنامج “يمثل فرصة لمدينة الصويرة لتعزيز مكانتها كمركز ثقافي مهم في المغرب وعاصمة ثقافية عالمية. كما يساهم في تعزيز الانفتاح الثقافي والتبادل بين الثقافات المختلفة في المدينة، ويمكن أن يساهم في الترويج للسياحة في المدينة وجذب المزيد من الزوار.”

يذكر أن الدورة السادسة والعشرين لمهرجان كناوة وموسيقى العالم التي ستقام من 19 إلى 21 يونيو الجاري بالصويرة، يشارك فيها 350 فنانا، يقدمون 54 حفلا موسيقيا على مدار ثلاثة أيام مكثفة من العروض بين الحفلات الكبرى في الهواء الطلق والعروض الموسيقية الوترية، إضافة إلى العروض في الأماكن التراثية.

14