إسرائيل.. من إستراتيجية هدم الجدران إلى إسقاط النظام

من منظور جيوبوليتيكي، لا يمكن النظر إلى الهجوم الإسرائيلي الأخير على العمق الإيراني باعتباره مجرد رد فعل تكتيكي أو عملية معزولة، بل هو جزء من إستراتيجية أوسع نطاقا لا تستهدف فقط تعطيل البرنامج النووي الإيراني، بل إعادة تشكيل البيئة الأمنية في الشرق الأوسط برمّتها.
إستراتيجية “هدم الجدران من الأطراف إلى المركز”، كتبتُ عنها في مقال سابق على منصة X، وأسميتها بهذا الاسم مع تصاعد أحداث السابع من أكتوبر. لفهم هذه الإستراتيجية نعود إلى السياق التاريخي، حيث نجد أن إيران بنت نفوذها الإقليمي عبر سلسلة من “الجدران الخارجية” كخطوط دفاع متقدمة تحيط بإسرائيل، بدءًا من غزة ولبنان، وصولًا إلى سوريا. هذه الجدران ليست مجرد أدوات ضغط، بل هي امتدادات إستراتيجية تعزز قدرة إيران على المناورة والردع.
منذ السابع من أكتوبر بدأت إسرائيل في تفكيك هذه الجدران، إدراكًا منها أن أمنها القومي لا يمكن ضمانه طالما أن هذه الأدوات قائمة وقادرة على تهديدها بشكل مباشر أو غير مباشر.
لكن ما نشهده اليوم هو انتقال إسرائيل من تفكيك الجدران الخارجية إلى استهداف “الجدار الداخلي”، أي النظام الإيراني ذاته. فالهجمات على المنشآت النووية، واغتيال العلماء والقادة العسكريين، ليسَا سوى أدوات في حملة أعمق تهدف إلى ضرب مركز ثقل المشروع الإيراني.
من خلال تحليل سلوك إسرائيل يتبيّن أنها تتحرك وفق إستراتيجية ذات بُعدين متوازيين ومتكاملين: تعطيل المشروع النووي، وتقويض النظام السياسي. فالبُعد الأول يتمثّل في امتلاك إيران للسلاح النووي، الذي يمثل لإسرائيل تهديدًا وجوديًا لا يمكن التعايش معه، وهو “خط أحمر” لا مجال لتجاوزه.
◄ إسقاط النظام، أو حتى إضعافه بشكل حاسم، يتطلب ديناميكيات داخلية لا يمكن التحكّم فيها، ما يجعل النجاح النهائي للإستراتيجية مرهونًا بعوامل خارج نطاق السيطرة الإسرائيلية
أما البُعد الثاني، فهو الأكثر طموحًا وربما الأكثر خطورة، ويتمثل في تقويض النظام الإيراني نفسه. فإسرائيل تدرك أن البرنامج النووي ليس سوى انعكاس لإرادة النظام في طهران، وأن أي تعطيل مؤقت للبرنامج لن يكون ذا جدوى إذا بقي النظام قادرًا على إعادة البناء والاستمرار في طموحاته.
عند متابعة الأحداث نجد أن إسرائيل تنفذ عملياتها وفق مبدأ “ضرب الرأس”، باستهداف القيادات العليا، ومراكز القيادة والسيطرة، والعقول العلمية التي تقود المشروع النووي. الهدف هنا ليس فقط إضعاف القدرات العسكرية، بل أيضًا زعزعة تماسك النظام وإظهار عجزه عن حماية نفسه أمام الداخل الإيراني والعالم.
بالتوازي مع ذلك تتحرك الحرب النفسية الإسرائيلية على أكثر من محور، بقصد إضعاف صورة النظام داخليًا، وتشجيع الاضطرابات، ودفع النخبة الحاكمة إلى الشك في قدرتها على البقاء. الرهان هنا أن الضغوط المتزامنة، عبر خطوط العمليات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية، ستُسرّع من تآكل شرعية النظام، خاصة في ظل التدهور الاقتصادي واحتقان الشارع.
المثير للاهتمام أن الإستراتيجية الإسرائيلية تركّز على معالجة الجذور لا الأعراض، ما يعني إدراك إسرائيل أن تعطيل البرنامج النووي وحده لن يحقق الأمن القومي على المدى البعيد. لذا تعمل إسرائيل وفق إستراتيجية تقوم على استهداف الجذر الحقيقي للمشكلة، وهو النظام ذاته، الذي يربط بين الطموح النووي والسياسة الإقليمية العدائية.
من هنا تأتي القناعة بأن الحل الجذري يمر عبر إضعاف أو إسقاط النظام، أو على الأقل دفعه إلى حالة من العجز المزمن.
ورغم أن هذه الإستراتيجية قد تمثل حلًا لأزمة أمنية مزمنة في المنطقة، إلا أنها تحمل في طياتها خطر التصعيد الإقليمي واحتمال انزلاق الشرق الأوسط إلى حرب شاملة.
لكن، من منظور المصالح القومية الإسرائيلية، تبدو المخاطرة مبرّرة إذا كانت نتيجتها إزالة التهديد النووي بشكل دائم.
ومع ذلك تبقى نقطة الضعف الأساسية في هذه الإستراتيجية هي تفاعل الداخل الإيراني. فإسقاط النظام، أو حتى إضعافه بشكل حاسم، يتطلب ديناميكيات داخلية لا يمكن التحكّم فيها، ما يجعل النجاح النهائي للإستراتيجية مرهونًا بعوامل خارج نطاق السيطرة الإسرائيلية.
اقرأ أيضا:
• قبل إيران.. "بيبي" ربح المواجهة مع ترامب!
• الحرب.. من بروفة إلى واقع متجسد في المنطقة
• الخليج لا ينسى 1980.. دبلوماسية الإمارات على خط النار