عبدالله بن زايد.. درس في النضج السياسي

لا بد أن نتفق على أن الواقع السوري اليوم شديد التعقيد وحكومة أحمد الشرع تمتلك أدوات محدودة جدًا لتفكيك هذا الواقع بسبب عدم اكتمال شرعيتها وضعف سيطرتها وشح الموارد.
الثلاثاء 2025/05/27
خطاب عقلاني بعيد عن المواقف الشعبوية

مقابلة الشيخ عبدالله بن زايد، وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة، مع قناة “فوكس نيوز” الأميركية، جذبت اهتمام الأوساط السياسية والإعلامية، خاصةً في ظل التحولات الإقليمية والدولية المتعلقة بالملف السوري. جاءت تصريحاته بشأن الحكومة السورية الانتقالية والرئيس أحمد الشرع لتفتح نافذة جديدة على مقاربة إماراتية عقلانية وواقعية في التعامل مع قضايا المنطقة، بعيدًا عن الانفعالات أو الاصطفافات الحادة.

عندما سُئل الشيخ عبدالله بن زايد عن إمكانية أن يثق الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالرئيس الشرع، أجاب بحذر وواقعية “ما زال من المبكر استخدام هذه الكلمة ‘ثقة’. الشرع وحكومته يقولون الرسائل المناسبة والصحيحة، لكن هل لديهم الإمكانية والأدوات لتنفيذ كل ما يقولونه؟ نأمل بأنه ومع رفع العقوبات سيملكون هذه الإمكانيات وسيتمكنون من الوفاء بكل وعودهم، وعلينا أن نتحقق من ذلك، كما قال الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان ذات مرة: ‘ضع ثقتك ولكن حافظ على يقظتك’.”

هذه الإجابة تحمل عدة رسائل سياسية ودبلوماسية؛ فالشيخ عبدالله لم يندفع لمنح الثقة الكاملة، بل شدد على أهمية التحقق والمتابعة، وهو نهج ينسجم مع مدرسة الواقعية في السياسة الدولية. كما جاءت عبقرية الواقعية في الرد، عندما ربط قدرة الحكومة السورية على تنفيذ وعودها برفع العقوبات، في إشارة إلى أن استمرار الضغط الاقتصادي لن يؤدي إلى نتائج إيجابية، بل قد يعرقل فرص الاستقرار والتنمية.

ما يثير الإعجاب أن الشيخ عبدالله اختار خطابًا عقلانيًا بعيدًا عن المواقف العاطفية أو الشعبوية، وركز على أهمية التحقق والمراقبة، وليس الانجرار وراء الوعود أو التصريحات الإعلامية. هذا الأسلوب في التواصل السياسي يُعدّ من أبرز نقاط قوة الدبلوماسية الإماراتية، حيث يتم توجيه الرسائل بدقة، مع مراعاة خلفية المتلقي وثقافته. الخطاب يعبّر عن عمق النضج للسياسة الإماراتية التي ترفض منطق “معي ظالمًا أو مظلومًا”، وهو منطق لا مكان له في عالم السياسة الحديثة القائم على المصالح المتبادلة وتحقيق الغايات الإستراتيجية.

◄ الحقيقة التي أراد الشيخ عبدالله بن زايد أن ينبه إليها واشنطن والمجتمع الدولي هي أن حكومة الشرع ربما تحمل نوايا صادقة، إلا أنها تواجه واقعًا متداخلاً من التحديات

الإمارات تطرح نفسها كدولة رائدة في مفاهيم سيادة القانون، ونظم التعايش، والتنمية الاقتصادية، والأتمتة الإدارية، وتعرض شراكة موثوقة لسوريا إذا التزمت الأخيرة بالمعايير الدولية. خطاب الشيخ عبدالله يحمل في طياته رسالة موجهة في آنٍ واحد للداخل العربي “لتصحيح المفاهيم حول السياسة الواقعية،” وللخارج الغربي “لتأكيد موثوقية الإمارات كشريك استراتيجي.”

في رأيي، الحكومة السورية الانتقالية أمام الكثير من التحديات والفرص، وعليها إثبات جديتها في الإصلاح والتنمية، خاصةً في ظل تاريخ معقد من الصراعات والانقسامات. إذا نجحت سوريا في الاستفادة من الدعم الإقليمي والدولي، وتم رفع العقوبات عنها، فقد تدخل مرحلة جديدة من الاستقرار والتنمية، والإمارات ستكون من أوائل الداعمين.

لا بد أن نتفق على أن الواقع السوري اليوم شديد التعقيد، وحكومة أحمد الشرع تمتلك أدوات محدودة جدًا لتفكيك هذا الواقع، بسبب عدم اكتمال شرعيتها، وضعف سيطرتها، وشح الموارد، وتعدد الفاعلين الداخليين والخارجيين. كما علينا أن ندرك أن أيّ حلول مطروحة ستحتاج إلى وقتٍ طويل، وإرادة سياسية جامعة، ودعم إقليمي ودولي حقيقي، مع ضرورة البدء بخطوات عملية في المناطق الأكثر استقرارًا، وبناء مؤسسات جديدة قادرة على استعادة ثقة السوريين تدريجيًا.

في ظل كل تلك التحديات، يظل ملف المقاتلين الأجانب التحدي الأكبر لحكومة الشرع، فوجود الآلاف من الجهاديين الأجانب، خاصةً في مناطق شمال غربي سوريا مع فصائل مثل “هيئة تحرير الشام” و”حراس الدين”، يخلق بيئة أمنية هشة تزيد من احتمالات الفوضى وعودة العنف، خصوصًا مع امتلاك هؤلاء المقاتلين خبرات قتالية وأيديولوجيات متشددة.

لا شك أن هذه البيئة الأمنية الهشة ستُشكّل قلقًا متزايدًا لدى دول الجوار، إذ قد يستخدم هؤلاء المقاتلون الأراضي السورية كمنصة لشنّ هجمات أو لزعزعة الاستقرار الإقليمي. فاستمرار وجود الجهاديين الأجانب، دون معالجة جذرية، قد يؤدي إلى ظهور خلايا نائمة أو عودة نشاط تنظيمات متطرفة مثل داعش والقاعدة، ما يهدد بإعادة إشعال الصراع في سوريا أو تصدير الإرهاب إلى دولٍ أخرى.

ختامًا، الحقيقة التي أراد الشيخ عبدالله بن زايد أن ينبه إليها واشنطن والمجتمع الدولي هي أن حكومة الشرع ربما تحمل نوايا صادقة، إلا أنها تواجه واقعًا متداخلاً من التحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والإقليمية. فنجاحها يتوقف على قدرتها على تحقيق الاستقرار الأمني، وإطلاق حوارٍ وطني شامل، وكسب ثقة الداخل والخارج، وإطلاق عملية إعادة إعمارٍ حقيقية، وكل ذلك في ظل موارد محدودة وضغوط خارجية مستمرة.

8