محمد عرش.. شاعر يكتب بروح مواطن ويبدع بعين ناقد

شاعر مغربي يسائل العالم ليضيء زواياه ويعيد تشكيله بالكلمات.
الأحد 2025/06/15
شاعر حقق توازنا بين الخصوصية والعمومية في كتاباته

تسطع تجربة الشاعر والناقد المغربي محمد عرش في المشهد الثقافي المغربي بتوهّج خاص، إذ تنبع من التزام عميق بالكلمة وموقف واضح من الثقافة والحياة. ويتجلّى حضوره في تفاصيل الفعل الثقافي بمختلف تجلياته. يشارك دون تردد. يتحرك باندفاع إنساني وشغف فني نادر، ويستجيب للدعوات الثقافية بكل سخاء، دون أن يتساءل عن مقابل أو يُبدِي ضيقا بمكان أو زمان.

وينسج عرش لنفسه حضورا يمتدّ إلى روح الفعل الثقافي في عمقه ومقاصده، إذ يتقدم صوب الأمسيات الشعرية والندوات الفكرية دون تكلّف، ويتعامل مع الثقافة باعتبارها فعلا جماعيا ومسؤولية أخلاقية، يُستدعى إليه بحفاوة، لأنه يعرف كيف يمنح دون صخب، ويصغي قبل أن يتكلم، كونه يبني قصيدته بوعي الشاعر المتمرّس، المتصالح مع اللغة والمشتبك مع الأسطورة والرمز، في محاولة لتفجير الدلالة وتوسيع فضاء المعنى. يختار التضمين بعناية، يشحن الصورة الشعرية بطاقة رمزية، يحررها من سطحيتها، ويفتحها على التأويل، فيعود شريكا في تأويل النص وتفكيكه.

الشاعر والتجربة

◄ عرش يشتغل على نصوصه داخل المجتمع، يشتبك مع اليومي، ويمنح تجربته أبعادا سياسية واجتماعية مؤمنا بالالتزام الشعري والمدني

يشتغل محمد عرش على اللغة بعين الصائغ، يعيد تشكيلها كما يشاء، يقطع وينحت، ثم يعيد التوازن إلى الجملة الشعرية كما يفعل الموسيقي مع لحن شارد، ويقدّم شعرا ينتمي إلى تقاليد القصيدة المغربية الحديثة، مع حرص واضح على التجديد في الشكل والعمق في المضمون.

وينخرط في النقد بنفس الحماسة التي يكتب بها الشعر، ويقرأ التجارب برؤية تتكئ على الذوق والمعرفة، يقدم نصوصا نقدية بعبارات شفافة، ويوظف المفاهيم في سياق يخدم النصّ ولا يعطّله ويتعامل مع النقد كجسر نحو الفهم والمكاشفة، يكتب عن شعراء مجايلين له وعن تجارب ناشئة، في سلوك يعكس حسّه التربوي وانخراطه في بناء الوعي الجمالي العام.

يشتغل عرش داخل المجتمع، يشتبك مع اليومي، ويمنح تجربته أبعادا سياسية واجتماعية، دون أن يفصل بين الالتزام الشعري والموقف المدني، ويمارس السياسة انطلاقا من إيمانه بأن الشاعر يعيش في صلب التحولات، ويحمل همّ الناس ويتحدث لغتهم، ويشتغل من داخل الجماعة الترابية، ويُسائل الواقع، ويجتهد في تحسين شروط العيش، دون أن يتنازل عن الحلم أو يفقد البوصلة.

ويمنح للتربية مكانة مركزية في حياته، ويمارس التعليم بصفته رسالة لا مهنة، وينقل القيم قبل المعلومات، يشكل الأجيال في كل لقاء ثقافي أو جلسة حوار، ويربط المدرسة بالمجتمع، مؤمنا بأن المثقف لا يكون مثقفا إلا إذا حمل همّ مجتمعه وساهم في رقيه، ويحافظ على علاقاته الإنسانية بكثير من الوفاء، ولا تُغيّره المواقع ولا تُعكّر صفاءه الخصومات العارضة. يستقبل الناس ببشاشة، يدعوهم إلى مائدته كما يدعوهم إلى قصيدته، لا يفرّق بين الشعراء والناس العاديين، لأنه يعتبر الجميع شركاء في الحلم والإنصات والعيش المشترك.

خلق المعنى

يكتب الشاعر محمد عرش بروح مشبعة بالصدق، ويمزج بين الذكريات والتأملات، بين الذات والآخر، بين الحلم والواقع، ليصنع نصوصا تسكن المتلقي وتوقظه، ويجعل من هشاشته عنصر قوة، يمشي في اللغة كما يمشي في الحياة: بخطى هادئة، واثقة، ومتزنة، ويتحول الإبداع عنده إلى مرآة يرى فيها القارئ نفسه، ويتحول النص إلى تجربة وجدانية وجمالية تسكن الذاكرة. ويشتغل على الكلمة بصدق نادر، يجعل منها نبضا لحياة داخلية وموقفا من العالم الخارجي. يكتب كما يعيش، ويعيش كما يكتب.

ويبرز الشاعر في ديوانه “أنثى المسافات” تجربة شعرية متقدمة تتجاوز البنية التقليدية للقصيدة، وتغوص في تفاصيل الذات واللغة والواقع برؤية حيوية وواعية، إذ يُشغّل أدواته البلاغية والإيقاعية بطريقة تمكّنه من تحويل اليومي العابر إلى لحظة شعرية نابضة، ويُعيد ترتيب العلاقات بين الكلمات والمعاني ليُنتج نصوصا مفتوحة على التأويل، قائمة على الانفجار الشعوري المراقب، ويُوظّف اللغة بوصفها بنية مستقلة، تُقاوم وتشتبك وتشارك في خلق المعنى، فيظهر الشاعر كما لو أنه ينحت قصيدته من الداخل، لا يكتبها من الخارج.

يُركز الشاعر على التفاصيل الصغيرة التي تُهمل عادة، ويُفعّلها شعريا لتُصبح نوافذ لرؤية أكثر عمقا للحياة والوجود، ويُحيل التفاصيل اليومية إلى إشارات رمزية تستبطن تجربة الإنسان المعاصر في وحدته، وفي تشتته، وفي علاقته بالزمن واللغة والمرأة، ويُعيد ترتيب نظرتنا إلى الأشياء، صانعا صورة بديلة، ففي إحدى قصائده يقول: “باع كل النوى واستوى/ وارتوى بعذاب الهوى وهوى.”

ويُشكّل هذا المقطع نموذجا على اشتغال الشاعر على التراكيب الصوتية والإيقاعية، ويكشف عن طاقة داخلية في اللغة نفسها، حيث التكرار والتدوير والانزياح أساليب تُسهم في خلق موسيقى تشتبك مع المعنى، ويُحوّل الفعل الشعري إلى فعل جسدي تقريبا، يحمل لذة وانفعالا، ويمنح القصيدة جسدا وإيقاعا وروحا.

ويُمارس عرش نوعا خاصا من التجريب اللغوي يتسم بالوعي النقدي، ويُوظّف المفردة النحوية في سياق شعري، ويُحول المصطلح إلى مادة شعرية قابلة للتشكيل، كما في قصائد مثل “جواب ابن مالك” و”المقهى” و”اشتهاء لاغتسال الرياح”، ويُفكك البنية اللغوية ويُعيد بنْينتها بما يُنتج قصيدة تُحاور اللغة من الداخل، وتُحرّك القارئ

نحو قراءة مزدوجة: قراءة في المعنى، وقراءة في اللغة التي تُنتجه. يُحوّل النحو إلى أرض شعرية، ويُعيد تأويل قواعده من داخل القصيدة لا من خارجها، ليُبيّن كيف يمكن للغة أن تُنْبت شعرا حين تُلامسها روح الشاعر لا قوالب العادة.

ويُجسّد الشاعر علاقة عميقة بالقصيدة، تُشبه علاقة الجسد بالعاطفة، والروح بالرغبة. يُقدّم القصيدة بوصفها أنثى مراوغة، معشوقة تُطلب وتُراوَد، تتمنع أحيانا وتشتعل أحيانا أخرى، ولا يُخفي اشتغاله على “أنثى القصيدة” بوصفها صورة رمزية للكتابة نفسها، حيث تتقاطع الرغبة الجمالية مع الرغبة الوجودية. يكتب: “تراود نصا وتفتح أبوابا  لتأويل رغبة امرأة مشتعلة،” ويضيف: “سأرافق الليل حتى أفجر نبع القصيدة.”

ويفجّر الشاعر هنا علاقة حسية مع النص، ويحوّل فعل الكتابة إلى مرافقة ليلية، مسكونة بالتوتر والرغبة والتأمل، بما يُكرّس القصيدة ككائن حيّ يتطلب معايشة كاملة، كما يُعلي من شأن التجربة ويمنح اللغة عمقا يتجاوز اللفظ نحو المعايشة الحقيقية للحظة الكتابة.

ويُبلور عرش رؤية شعرية تنطلق من الداخل لا من الخارج، وتنمو من التوتر الذاتي لا من الزخرفة الشكلية، ويُعيد ترتيب علاقة الذات بالقصيدة، ويكتب من مكان فيه احتراق وانكسار ووعي،  يُوظّف الصور لبناء فضاء دلالي قادر على احتواء أسئلته الخاصة، ويؤمن بأن القصيدة التي لا تُكتب من معاناة صادقة هي قصيدة بلا روح، لهذا تخرج قصائده وكأنها امتداد لألمه وفرحه، لقلقه وهدوئه، لتأمله وتمرده.

◄ المثقف عند عرش عضوي أو لا يكون

ويُنتج الشاعر في “أنثى المسافات” نصوصا تحتفي باللغة بوصفها فضاء للخلق، وتشتبك معها لاستهلاكها وتفجيرها في آن. يكتب عن الشمس، وعن الرمال، وعن البحار، لكنه يُحمّل هذه الكائنات بُعدا رمزيا، ويجعلها تتحدث عن الإنسان، عن الاغتراب، وعن البحث المستمر عن النور والمعنى، نقرأ: “تضحك البحار من نضوب الرمال. وتحلق بعيدا لتحضن شمس لغة سطعت.”

يُمارس الشعر هنا دوره الجوهري: مساءلة العالم، ومحاولة إضاءة زواياه، وإعادة تشكيله بالكلمات.

الخاص والعام

محمد عرش هو شاعر مغربي معاصر ينتمي إلى جيل الثمانينات من القرن العشرين، رغم أن بداياته الشعرية تعود إلى السبعينات، إذ يتميز شعره بالصوت الفردي المتشظي، ويمزج بين قصيدة التفعيلة والنثر الشعري والومضة، ليعبّر من خلالها عن رحلة بحثه الدائم عن الحنان والوجود. فقد والدته في طفولته المبكرة، وهو ما ترك أثرا نفسيا عميقا وجعل الشعر وسيلته للغوص في أعماق الذات والبحث عن “وجه الأم” الغائب.

أصدر محمد عرش عدة دواوين مهمة شكلت مراحل مختلفة من تجربته الشعرية، منها ديوانه الأول “أحوال الطقس الآتية” الذي حمل طابعا سياسيا وأيديولوجيا، ونشره على نفقته الخاصة، ثم توالت أعماله مثل “أنثى المسافات” و”مغارة هرقل” و”كأس ديك الجن” وكان ديوانه الأخير “مخبزة أونغاريتي” محطة بارزة في مسيرته، حيث استوحى تجربة الشاعر الإيطالي جوسيبيه أونغاريتي، معبرا عن الألم والحرية في لغة شعرية متجددة ومركزة.وتأثر الشاعر بعدد من التيارات الشعرية العربية والغربية ورموزها، مثل مالارميه وبودلير ورامبو وإليوت وإدغار آلان بو، بالإضافة إلى تأثيرات من شعراء عرب كبار كعبدالوهاب البياتي وأدونيس، وهذا التنوع أثرى تجربته وأضاف أبعادا عالمية لشعره الذي يعكس صراعات الإنسان النفسية والاجتماعية.

ويرى عرش أن الشعر المغربي يمتلك قوة ثقافية وفكرية هامة رغم التحديات التي تواجهه، ويؤكد على ضرورة وجود نقد جاد يميز بين الجيد والرديء لتطوير المشهد الشعري. وبالنسبة إليه الكتابة تجربة مستمرة لا تتوقف، تقوم على المحاولة والتجديد والإصرار على التعبير.

ويبدأ محمد عرش كتابته غالبا في لحظات من القلق الوجداني والإلهام المفاجئ، حيث يستيقظ ليخوض تجربة صياغة النصوص التي يحرص على تنقيحها بعناية، جعلت شعره يتسم بالتركيز اللغوي والتماسك الفني. وبذلك يظل محمد عرش واحدا من الأصوات الشعرية المغربية التي تربط بين التجربة الذاتية والامتداد الثقافي الأوسع، محققا توازنا بين الخصوصية والعمومية في كتاباته.

◄ الشاعر يدخل بنا شوارع مدينته الخلفية
الشاعر يدخل بنا شوارع مدينته الخلفية

 

8