"حكمة البوص على صورة البروفايل"

الراحل هيثم الزبيدي ربط بين الفكر والعمل كما ربط هيجل بين الفلسفة والتاريخ، فرفض القفز على الأحداث أو الانجرار إلى تفسيرات سريعة.
السبت 2025/06/14
نظرية البومة في الحياة اليومية

سألت ذات يوم البوص الدكتور هيثم الزبيدي، رحمه الله، رئيس مجلس إدارة صحيفة العرب ورئيس التحرير المسؤول ومبدع منصة “ميدل إيست أونلاين” عن صورة لبومة في حسابه على سكايب، أجاب بهدوء “البومة تراقب بصمت، وتحوم وتبصر في الليل والناس نيام”، فمنح هذا الجواب عدة دلالات رمزية لعيون البومة، وكأنه يقدّم خلاصة موقف فكري ومهني في جملة واحدة.

جسّد هذه الحكمة فعلا، إذ قاد العمل الصحفي بروح تأملية، لا تركض خلف الضجيج، إذ راقب الأحداث، وتأمّل السياقات، ثم كتب بهدوء يشبه رفرفة جناحي بومة في ليل صاف، فتحوّل عمله الصحفي إلى ممارسة عقلية فلسفية تُعيد تشكيل الفهم، ولا تكتفي بإعادة إنتاج الوقائع من أخبار الوكالات.

وقادني الفضول إلى البحث عن تلك الحكمة فوجدت أن الفيلسوف هيجل وضع تفسيرا لهذا الطائر، حينمة قال إن “بومة مينيرفا لا تطير إلا عند الغسق”، بمعنى أن الفهم لا يبدأ إلا بعد نهاية الحدث، وعالج هيجل الفلسفة كوعي متأخّر، إذ يفسّر الواقع بعد أن يستقر، مثلما تظهر البومة في نهاية النهار لتقرأ صمت العالم، وليس صخبه.

وربط الراحل الزبيدي بين الفكر والعمل كما ربط هيجل بين الفلسفة والتاريخ، فرفض القفز على الأحداث أو الانجرار إلى تفسيرات سريعة. ومارس الصحافة كأداء فكري رصين، وراقب السياقات، وأخرج الكلمة من رحم الصمت…

ويستخدم علم النفس التحليلي البومة رمزا للحدس القوي، إذ رأى كارل يونغ في البومة تجسيدا للرؤية الباطنية والبصيرة، فمنح هذا الرمز لمن يتأمل ويصبر ويقيس الفهم بالزمن لا بالعاطفة. وجسّد الزبيدي هذه الصفات كلها؛ استبطن المعنى، وانتظر حتى تتضح الصورة، ثم كتبها بلا صخب، ومنحته هذه الرؤية قدرة نادرة على ضبط النفس التحريرية. وأدرك أن الفوضى تُفكّ رموزها بعد الانتهاء. وتصرّف مثل بومة تراقب من أعلى، وتختار لحظة التدخل بدقة، ولا يتوه وسط الضجيج، ويصغي إلى ما بعده.

وصوّرت الثقافات القديمة البومة ككائن حكيم، إذ رافقت الإلهة أثينا في الميثولوجيا اليونانية، ودلّت على المعرفة الصامتة في الأساطير، كما ظهرت في الحكايات الشعبية كدليل على الرؤية الليلية، وحمّلتها التقاليد رمز التبصّر، وجعلت منها طيفا فكريا، وكذلك ترسّخت هذه القيم في أسلوب الزبيدي المهني. قاد الصحيفة برؤية بعيدة المدى، وحمى المهنة من الاستسهال، ورعى الكلمة لتخرج ناضجة لا منفعلة. ورفض الانجرار وراء السائد، واختار الصمت حين يكون الصوت مشوّشا.

وصاغ “نظرية البوم” كنموذج لممارسة عقلانية عميقة داخل الصحافة. حافظ على المهنية وسط الزحام، وأعاد للكتابة مكانتها كأداة للتأمل والفهم، ومنح المهنة وزنها الرمزي والفكري، بعيدا عن التجاري والدعائي.

ودعا إلى التريث، وعلّم من حوله ألا يركضوا خلف كل جديد، وإنما يقرأوه من الأعلى، ورسم طريقا لفهم الأحداث، وحمل بصر البومة وحدسها، وطوّر بصيرة لا يشوّهها وهج اللحظة، تلك هي رموز صورة البومة على بروفايل البوص هيثم الزبيدي.

18