هلال التأسلم السياسي المسلح.. من الجهاد إلى الحكم

شهدت المنطقة الممتدة من آسيا الوسطى إلى الشرق الأوسط تحولات جذرية في العقود الأخيرة، كان أبرزها صعود نموذج “دولة طالبان” التي وُلدت من رحم الجهاد الأفغاني ضد الاحتلال السوفييتي، وتحولت لاحقًا إلى مرجعية واقعية في ذهنية الحركات الإسلامية السياسية المسلحة، بل وحتى في حسابات بعض دوائر القرار الغربية، وعلى رأسها واشنطن.
بدأت قصة أفغانستان الحديثة مع الغزو السوفييتي أواخر السبعينات، حين تحولت البلاد إلى ساحة جهاد عالمية استقطبت آلاف المقاتلين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، بدعم مباشر من الولايات المتحدة ودول عربية وباكستان. ومع انسحاب السوفييت، لم تنتهِ حالة الاحتراب، بل دخلت البلاد في صراعات بين أمراء الحرب، إلى أن ظهرت حركة طالبان منتصف التسعينات، متعهدة بإنهاء الفوضى وتطبيق الشريعة الإسلامية وفق رؤيتها الدينية والبشتونية.
استطاعت طالبان، عبر تحالفات محلية ودعم خارجي، أن تفرض سيطرتها على معظم أفغانستان بحلول عام 1996، معلنة قيام “إمارة أفغانستان الإسلامية”. وظلت الحركة معزولة دوليًا حتى سقوطها بعد الغزو الأميركي عام 2001، ثم عادت إلى السلطة مجددًا في عام 2021 بعد انسحاب القوات الأميركية، لتصبح “حكومة أمر واقع” بنموذج حكم متشدد وغير مرن.
تجربة طالبان لم تبقَ محصورة في الجغرافيا الأفغانية، بل تحولت إلى نموذج ملهم للحركات الإسلامية السياسية المسلحة في المنطقة. فقد أثبتت التجربة أن “المسار الجهادي” لم يعد مجرد أداة لتحرير الأرض من المحتل، بل يمكن تحويله إلى إستراتيجية حكم وفرض سلطة أمر واقع على قاعدة “حكم المتغلب”، متجاوزًا فكرة الشرعية التقليدية أو التوافق الوطني.
◄ تحول أفغانستان من ساحة جهاد إلى نموذج حكم إسلامي مسلح أصبح واقعًا يُحتذى به في أوساط الحركات الإسلامية السياسية المسلحة، ويؤثر في حسابات القوى الدولية والإقليمية
هذا التحول في الذهنية الجهادية، من مقاومة عسكرية إلى مشروع حكم، أصبح واقعًا حاضرًا في مخيلة قادة حركات الإسلام السياسي، خاصة مع فشل وتراجع الإسلام السياسي المتمثل في حركة الإخوان المسلمين بعد عام 2013، وعودة الرهان على القوة المسلحة كطريق للسلطة، أو على الأقل كأداة ضغط في مفاوضات إعادة رسم خرائط النفوذ الإقليمي. وهو ما أثبتته جبهة النصرة، ثم هيئة تحرير الشام في الحالة السورية، وجماعة أنصارالله في الحالة اليمنية.
ولم يقتصر تأثير النموذج الطالباني على الحركات الإسلامية، بل دخل في حسابات دوائر القرار الغربية، وأصبح خيارًا مقبولًا. فواشنطن، التي قاتلت طالبان لعقدين، وجدت نفسها مضطرة للتفاوض مع الحركة، بل وتركت الباب مواربًا أمام احتمال الاعتراف بها إذا التزمت بشروط معينة، أبرزها عدم استخدام الأراضي الأفغانية كمنصة لهجمات إرهابية. هذا التردد الغربي في الحسم مع طالبان، والآن مع الحوثيين، يرسل رسائل مزدوجة، بعضها يُقرأ في أوساط الإسلام السياسي باعتباره قبولًا بالأمر الواقع إذا توفرت القوة والقدرة على فرض الاستقرار.
علينا هنا أن نقرّ بأن تجربة طالبان أعادت رسم خريطة الإسلام السياسي في آسيا الوسطى والشرق الأوسط. الخطير في الأمر هو التماهي الإقليمي والدولي في قبول قاعدة “حكم المتغلب”، ما يعني صكّ تأكيد على أن الحركات المسلحة قادرة على فرض واقع جديد إذا امتلكت أدوات القوة والتنظيم، ولو على حساب الشرعية أو القبول الدولي.
هذا الواقع الجديد يهدد بإعادة إنتاج “هلال التأسلم السياسي المسلح”، حيث تصبح السلطة غاية في ذاتها، ويغدو “حكم المتغلب” هو المرجعية، كما أثبتت التجربة الأفغانية على الأرض.
من جانب آخر، علينا الانتباه إلى الوضع في سوريا بعين التوجس، كما عبّر عنه الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية الإماراتي، عندما اختصر الموقف بكلمتين: “الثقة والتحقق”. فبالرغم من البراغماتية التي تُظهرها القيادة السورية الجديدة، فإن دمج الآلاف من المقاتلين الجهاديين، الذين يحملون أيديولوجية ذات مرجعية جهادية، في هياكل الدولة الجديدة، دون معالجة جذرية لمخاطرهم، قد يُحوّل سوريا إلى “برميل بارود” قابل للانفجار في أيّ لحظة، مع تداعيات مباشرة على الأمن الإقليمي والدولي.
بهذه المقاربة، قد تتحول سوريا إلى خزان من الجهاديين، يتم تحريكهم من قبل قوى إقليمية ودولية تجاه مناطق التوتر، بهدف التأثير على أمن واستقرار دول معارِضة أو خصوم سياسيين.
ختامًا، تحول أفغانستان من ساحة جهاد إلى نموذج حكم إسلامي مسلح أصبح واقعًا يُحتذى به في أوساط الحركات الإسلامية السياسية المسلحة، ويؤثر في حسابات القوى الدولية والإقليمية. التجربة الطالبانية، بما لها وما عليها، أعادت تعريف مفهوم الجهاد السياسي، وطرحت معادلة جديدة في المنطقة: من يملك القوة يفرض واقعه، ولو مؤقتًا، حتى في ظل عزلة دولية… ولنا في أمكنة أخرى من أرض الواقع قياس.