حكيم القرية المجنون

في عالم عربي يفتح عينيه صباحًا على متابعة الأخبار الأكثر انتشارًا (تريند) على مواقع التواصل، ينغمس فيها لمدة ساعة أو أكثر، يزيل من خلالها آثار النوم، تظهر للمراقب أشياءٌ تبدو ضربًا من الجنون.
الكل يريد الإعلان عن نفسه، وموقفه، وإن يكن في ما لا يخصه، فالكل على وسائل التواصل له منصته. يمكن أن يخوض في سيرة الكل؛ أحياءً أو أمواتًا، دون تيقنٍ أو تحقيق، دون رادعٍ من دين أو وازعٍ من ضمير.
تنتشر صورة خطاب عاطفي أليم منسوب إلى ممثلة راحلة محبوبة كتبته لمطرب راحل كبير، فتتبارى الأغلبية في إبداء الرأي والتعليق، والخروج بالنتائج، حول زواجهما، مع هجوم لا ينقطع على المطرب الذي ترك الممثلة في هذه الحالة من الألم، وهي التي يتمناها الجميع.
يتم تداول الأنباء المشككة في زواج مذيعة من ممثل راحل كبير، برغم ظهورهما معًا خلال حياته باستمرار، فلا تترك الجماهير الحكاية لأطراف القصة الرئيسيين أو من يعرفون الاثنين معرفة شخصية، ولا ينتظر الناس فصلًا في المسألة بأحكام قضائية، فلماذا ينتظرون؟ ولماذا لا يحكمون؟
تكفي أسطر قليلة يخطها المدونون، بغضب أو سب أو سخرية، لتقدم القول الفصل في المسألة، من السياسة إلى الاقتصاد، ومن الفكر إلى الفقه، ومن الشأن العام إلى الحيوات الشخصية. لماذا لا يفعلون؟ فالكل حر، والأغلبية تمرح في نعيم الحرية، وفردوسها الأزرق.
عندئذ؛ لا تملك إلا أن تتساءل في صمت: فيم تستخدم الجماهير حريتها؟ وتتصاعد فورة الغضب داخلك، ليتطور السؤال إلى الأسوأ؛ هل تستحق هذه الجماهير الحرية؟ يبدو السؤال دكتاتوريًّا بشدة. وتجد نفسك كأنما تقف في مربع واحد مع طغاة، طالما طرحوا السؤال، كي يتهربوا من الحرية.
لكن المراجعة واجبة، والتفكير النقدي يفرض نفسه، ويعود السؤال إلى صياغة متزنة، ليصبح: كم عام، أو عقد من الزمان، نحتاج ليتطور وعي الناس؟ وكيف؟ أيكون ذلك ببناء الوعي عبر التعليم والثقافة والإعلام؟
ربما، لكنك أيضًا لا تفتأ تجد مثقفين كبارا، ومشتغلين على تطوير الوعي والتنوير، يبادرون على صفحاتهم إلى نشر أخبار لم تثبت صحتها، لمجرد أنها تخدم وجهات نظرهم، أو صور يمكن لطفل اكتشاف زيفها بنظرة عين، ليبنوا عليها آراء وتحليلات وأفكارًا إستراتيجية.
يبدو الأمر بائسًا، وكأن العدوى في فردوس الحرية الأزرق أسرع ما تكون، فما أسهل إصابة المثقفين بفايروس السطحية والابتذال وعدم التدقيق. ما أيسر الانزلاق إلى المستنقع.
الأصعب هو أن يمدنَّ أحدٌ يده بكلمة أو فكرة عاقلة. عندئذ يبدو مثل حكيم القرية المجنون، الذي قد يثق الكثيرون في حسن نواياه، لكنهم يضحكون منه، ويسخرون، أو يلقونه بالحجارة مع المُلقين، فهو وحده، ولا سلاح عنده إلا الفكرة.
ولا يملك المرء عندئذ سوى أن يتراجع إلى الوراء. يقف وحيدًا. يراقب حزينًا. يتسلح بالصمت، فيمتنع عن البوح برأي قد يكون ثقيل الظل والوطأة على قلوب حالمة، أو هازلة، ونفوس هي في الأصل متعَبة، فاستكانت إلى ما يريحها، وإن يكن بلا معلومة أو دليل أو واقع يؤيده.
ليسترح الكل. وأنت لن تصلح الكون، يقول الحكيم المجنون لنفسه، ويعود إلى مكتبته، ليلمح بطرف عين كتابه الأثير “سيكولوجية الجماهير”، ويستعيد أفكار جوستاف لوبون “الجماهير تنفعل ولا تعقل.. تتأثر ولا تفكر.” فما الغرابة إذًا؟ ولم الحزن؟ ويظل يتمنى أن يصرخ يومًا في الكل.. كن أنت.. كن ذلك الفرد المستقل.. ولا تكن جزءًا من قطيع.