مشروع "كلمة" يصدر كتاب جان كلود دافيد عن حلب وحضاراتها

الكتاب يتناول مدينة حلب وحضاراتها ويقدم قراءة معمقة في نشأتها وتطورها ضمن نسيجها الجغرافي والحضاري.
الأربعاء 2025/06/11
حلب تختزل تاريخا طويلا

أبوظبي - تكتسي مدينة حلب السورية منذ عصور سابقة مكانة هامة لما تختزله من حضارة إنسانية، إذ تعاقبت عليها العديد من الحضارات مثل الحثية و‌الآرامية و‌الآشورية و‌الفارسية و‌الهيلينية و‌الرومانية و‌البيزنطية والإسلامية، وتمازج إرث كل منها في المدينة السورية الأبرز والأكبر عمرا من العاصمة دمشق.

وقد ترك هذا المزيج الحضاري أثارا هامة في المدينة وثقافتها وفنونها ومعمارها ونسيجها الاجتماعي، ما جعل منها مجالا خصبا يثبت أهمية تلاقح الحضارات وقوة الثقافة المنفتحة في بناء الإنسان وتاريخه، ولكن كل هذا الإرث يواجه مصاعب تدعو إلى  الاهتمام بشكل أكبر به.

في هذا الإطار من الاهتمام بحلب وحماية تاريخها، أصدر مركز أبوظبي للغة العربية التابع لدائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي، ضمن مشروع “كلمة” للترجمة، كتاب “حلب: تراث وحضارة” للمفكر والباحث الفرنسي جان كلود دافيد، الذي نقلته إلى العربية الدكتورة هلا أحمد أصلان، وراجع ترجمته كاظم جهاد.

ولعل الاختيار على عين غير عربية لرصد ملامح حلب وحضاراتها ضروري لخلق نوع من الحيادية في رؤية مدينة متعددة الأعراق والملامح، وهو ما يساهم في تقديم صور غير منحازة أو معتادة، صور تنطلق أساسا من مبدأ علمي ومن معاينات كاشفة بعمق للخفايا وملامح الجمال والحكايات المنسية.

k

يتناول الكتاب مدينة حلب بوصفها واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم، إذ يقدم المؤلف قراءة معمقة في نشأتها وتطورها ضمن نسيجها الجغرافي والحضاري.

ويطرح دافيد تساؤلات حول ما إذا كانت المدينة لا تزال تحتفظ بشواهد حية من تاريخها البيزنطي والروماني والهلنستي والآرامي والحيثي والأكادي، أو أن ما تبقى مجرد جدران وقطع أثرية صامتة، لا تنطق إلا بما تبقى من تاريخها.

يتناول الكتاب جدلية الذاكرة والهوية في السياق الحلبي، ويقترح قراءة متعددة الأبعاد للمدينة ويبرز خصوصية المجتمع ليظهر كيف تتجلى هذه المدينة بتراثها الغني ومهاراتها الحرفية التي تكونت بعيدا عن أنماط العولمة السائدة.

ويظهر المؤلف وعيا نقديا بخلفيته الاستشراقية، ويسعى من خلال قراءة موضوعية، إلى تجاوز هذه النظرة النمطية وإنصاف حلب وتراثها، بعيدا عن الأحكام الجاهزة.

يعد المؤلف جان كلود دافيد من أبرز المتخصصين في الجغرافيا العمرانية والتراث الثقافي للمدن التاريخية، وبدأ شغفه بمدينة حلب من أطروحة الدكتوراه التي تناول فيها “المناظر الطبيعية الحضرية في حلب”، ليعمل لاحقا متدربا وخبيرا في بلديتها، ويشارك في إعداد مخططها العمراني وحماية مدينتها القديمة.

يقدم دافيد في كتابه هذا دراسة هامة عن أهم مناطق حلب، وهو ما يعتبر مواصلة لمشروعه البحثي في كتاب “أوابد سويقة في حلب” الذي تناول فيه الأبنية الأثرية في منطقة سويقة علي في حلب القديمة ومنها دار جنبلاط وخان قورت بك ودار الأميري وزاوية أصلان دادة، كما قدم مجموعة هامة من المخططات الهندسية الدقيقة التي أنجزها الباحث بنفسه وبالاستعانة بالمهندس تيري غراندان والدكتور المهندس فواز باقر.

الكتاب يتناول جدلية الذاكرة والهوية في السياق الحلبي، ويقترح قراءة متعددة الأبعاد للمدينة

في مؤلفه “حلب: تراث وحضارة” يتحدث عن المراحل المتعاقبة على مدينة حلب منذ نشأتها وتحدث عن الأمم والحضارات التي خضعت لحكم حلب أو خضعت لإمرتها، ورغم ذلك فإن الباحث لا يغرق كثيرا في تناول التاريخ السياسي للمدينة، رغم أهميته البالغة، إذ نجده مهتما أكثر بالجانب الاجتماعي والفني لها، وخاصة في ما يتعلق بالعمران والعمارة وسرد قصص المدينة وأهم التقلبات التي شهدتها والعناصر التراثية والجمالية والتاريخية التي تميزها.

يصف جان كلود دافيد حلب بأنها “عنقاء كروما، مدينة أبدية.. ولدتْ على غرار دمشقَ وغيرها من مدن الداخل السوري قبل مدينة روما بكثير، وهي واحدة من المدن القليلة من بين المدن الأولى التي لا تزال تنبض بالحياة. عبرت التاريخ بفضل حضورها عند تقاطع طرق راسخة، وبفضل الصفقات التي تعقد فيها عند ملتقى المنتَجات والحاجات. لكن التساؤلات التي تطرح نفسها هنا هي: هل تأتت ديمومة حلب الاستثنائية من حيوات متعددة متعاقبة منذ نشأتها في الألفية الثالثة قبل الميلاد؟ أم أن هذه الديمومة ناتجة عن تطور بطيء مكن المدينة من تحقيق خصوصيتها الثقافية؟

وتأتي هذه الدراسة الجديدة في مرحلة محورية في تاريخ المدينة، التي تعرضت لتأثيرات المعارك التي دارت رحاها في شوارعها والقصف الجوي والصاروخي على الكثير من معالمها، ما تسبب في تدمير أجزاء هامة من تاريخها رغم أن الكثير من عناصر هذه المدينة مدرجة على قائمة اليونسكو.

ومن شأن الكتاب تدوين جزء هام من تاريخ المدينة التي تعتبر من بين أقدم المدن المأهولة في التاريخ البشري، مدينة تؤدي إليها كل الطرق من الشرق والغرب، زينت دروبها بشجر المفاجأة وثمار المعرفة. حيث الأرض مزيج من تراث ذي طابع خاص ولكنَة محببة، طعام حار لذيذ وطرب فتان أصيل.

ويحسب لجان كلود دافيد المفتون بحلب أنه ابتعد كليا عن النظرة الاستشراقية التي ميزت تعامل الباحثين الغربيين مع التاريخ الشرقي، وقدم بالتالي دراسة موضوعية، تساهم في توثيق تاريخ المدينة.

13