أفريقيا ملاذ إستراتيجي لهزائم روسيا في أوكرانيا

 روسيا تحاول توسيع نفوذها الأمني في أفريقيا باستخدام إستراتيجية دفاعية تهدف إلى خلق أوراق مساومة جديدة.
الأربعاء 2025/06/11
الانخراط الروسي لا يجلب الامتيازات دائما

من يراقب الخطاب الروسي الأخير تجاه القارة الأفريقية، خصوصاً التصريحات الصادرة عن الكرملين مؤخراً حول “تعزيز التعاون في المجالات الحساسة كالدفاع والأمن” في التاسع من يونيو، يلاحظ بوضوح أن موسكو تحاول جاهدة ترميم ما تكسّر من صورتها الدولية منذ انخراطها العسكري العنيف في أوكرانيا.

ولعلّ أحدث نماذج العجز الروسية في الملف الأوكراني، هو ما أصاب موسكو جراء الهجوم الأوكراني الواسع المعروف بـ«عملية شبكة العنكبوت» في مطلع يونيو الجاري، والذي استهدف قواعد روسية عميقة ودمّر أو أضعف عدداً كبيراً من قاذفاتها الإستراتيجية، ما شكّل ضربة ميدانية ورمزية موجعة ومذلّة.

وقد اكتفى الكرملين، من خلال متحدثه الرسمي، ديمتري بيسكوف، بالإشارة إلى أنّ الردّ الروسي سيأتي في الوقت والشكل والطريقة التي تراها موسكو مناسبة، من دون تقديم تصور واضح أو موقف مباشر، الأمر الذي عمّق الانطباع الدولي بأن روسيا ما زالت تتلقى الضربات دون قدرة فعلية على ترميم صورتها كقوة كبرى.

وبعد أكثر من عامين على غزوها الذي لم يُحقق أهدافه السياسية والعسكرية، تجد روسيا نفسها عالقة في مستنقع استنزاف طويل المدى، فتحاول تصدير فائض الأزمة إلى مساحات جغرافية أضعف رقابة وأكثر قابلية للاختراق، وعلى رأسها الساحات الأفريقية.

الانخراط الروسي في الصراعات الداخلية الأفريقية لا يجلب دائماً الامتيازات، بقدر ما يراكم الأعداء، ويعمّق العزلة الأخلاقية لموسكو

ولا يخفي تصريح بيسكوف الذي بدا أشبه بالمراوغة الخطابية حجم الإرباك داخل النظام الروسي، والذي بات يفتقر إلى المبادرة ويكتفي بردود أفعال لا تتجاوز حدود الإعلام الرسمي أو التصعيد اللفظي، فالفشل في الردّ العملي على “عملية شبكة العنكبوت” كشف بوضوح عن خلل في منظومة الردع الروسية، لاسيما بعد تعرض مواقع إستراتيجية لقصف دقيق ومتكرر دون قدرة واضحة على الرد بالمثل أو رفع الكلفة على أوكرانيا.

ويمكن أن يفهم هذا التردد الروسي كإشارة على التقهقر، لا كجزء من إستراتيجية مؤجلة، خصوصاً أن روسيا استنزفت كثيراً من أدوات المفاجأة في بداية الحرب، وفقدت القدرة على قلب التوازن أو إحداث فارق ميداني واضح.

وبالتوازي مع هذا الارتباك الروسي، كانت أوروبا تعيد ترتيب صفوفها من جديد. فقد شهدت العاصمة البولندية وارسو مؤخراً لقاءً ثلاثياً هو الأرفع منذ بداية الحرب على أوكرانيا، ضمّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني أولاف شولتس، إلى جانب القيادة البولندية، في رسالة مزدوجة، كان أولها لتأكيد وحدة الصف الأوروبي شرقاً وغرباً، وثانيها لبعث إشارة مباشرة إلى الولايات المتحدة بشأن جدّية القارة العجوز في احتواء الطموح الروسي، وقد أُتبع هذا اللقاء باتصال مباشر مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ما يعكس حرص الأوروبيين على ضمان اتساق الدعم المستقبلي لكييف.

ولا ينفصل هذا الاصطفاف المتجدّد عن شعور الغرب بضرورة حسم معركة أوكرانيا لصالح التوازن العالمي، وحتى منع موسكو من استخدام مناطق نفوذ جديدة – كأفريقيا – لتعويض تراجعها في قلب القارة الأوروبية.

وفي ظل العجز عن تحقيق مكاسب حاسمة في الميدان الأوكراني، ومع استنزاف موسكو لأدواتها التقليدية في الردع، يبدو أن الانخراط المتصاعد في أفريقيا بات جزءاً من إستراتيجية دفاعية شاملة، كمحاولة للالتفاف الجغرافي على الضغوط الغربية، وتثبيت أوراق نفوذ جديدة تصلح كورقة مساومة في أيّ تسوية قادمة.

ولم يعد الحضور الروسي في أفريقيا مجرد امتداد لمصالح إستراتيجية كما تدّعي موسكو، بقدر ما بات يمثل بوضوح محاولة سياسية لتعويض فقدان المكانة الجيوسياسية في أوروبا والعالم.

ومن مالي إلى جمهورية أفريقيا الوسطى، مروراً بغينيا الاستوائية والسودان، تندفع روسيا إلى ملء الفراغات الأمنية التي خلّفها انحسار النفوذ الغربي، من خلال واجهات شبه عسكرية مثل مجموعة “فاغنر” سابقاً و”فيلق أفريقيا” الروسي حالياً.

وتدار هذه القوات، رغم تغير مسمياتها، بمركزية استخباراتية – عسكرية خفية، تسعى لتثبيت النفوذ الروسي عبر عقود أمنية، وتدريبات عسكرية، وصفقات سلاح تُشترى أحياناً بالذهب والموارد الطبيعية. إنها ليست دبلوماسية ناعمة بقدر ما هي “ميليشياوية جيوسياسية” تحاول رسم حدود تأثير روسي في دول فقدت السيطرة على سيادتها الداخلية.

بعد أكثر من عامين على غزوها الذي لم يُحقق أهدافه السياسية والعسكرية، تجد روسيا نفسها عالقة في مستنقع استنزاف طويل المدى

واللافت أن هذا النمط من الحضور الروسي يختلف جوهرياً عن الدور الذي لعبه الاتحاد السوفييتي (روسيا حالياً) في أفريقيا خلال الحرب الباردة مع واشنطن، حين كانت موسكو تُموضع نفسها كحليف لحركات التحرر ومُصدّر للأيديولوجيا المناهضة للاستعمار. أما روسيا اليوم، فتتوسل أدوات غير أيديولوجية وتتحرك من منطق “المصالح الأمنية والصفقات”، مستخدمة المرتزقة والذهب، ما يعكس تحوّلاً عميقاً في هوية الدور الروسي ذاته، من مشروع تحرري عالمي في فترة الاتحاد السوفييتي إلى شركة أمنية كبرى تسعى لتأجير خدماتها في مناطق الفراغ السيادي.

ولا يمكن قراءة التوسع الروسي في أفريقيا إلا بوصفه انعكاساً مباشراً للانكماش الروسي في فضاءات القوة التقليدية، فروسيا التي تواجه عزلة غربية خانقة، وعقوبات اقتصادية مريرة، تحاول تعويض ذلك بحضور رمزي في مناطق أخرى، لتقول للعالم إنها ما زالت لاعباً لا يُمكن تجاوزه. لكن هذا الحضور يبدو في حقيقته هروباً إلى الأمام أكثر منه مشروعاً طويل الأمد.

وتمثل الفراغات الأفريقية بيئة مناسبة لهذا “الهروب الجيوسياسي”، فهي تتيح لموسكو التحرك دون رقابة دولية خانقة، وتُوفر لها موارد مقابل خدمات أمنية. لكن الإشكالية الكبرى تكمن في أن هذا الدور الروسي يُعبّر عن تصدير للفوضى تحت لافتة “الأمن”.

ويعتبر التحول من “فاغنر” إلى “فيلق أفريقيا” إعادة تموضع تكتيكي بعد الصدمة التي أحدثها تمرد يفغيني بريغوجين ضد قيادة الجيش الروسي. فبعد مقتل بريغوجين والقيادي في “فاغنر” أوتكين، كان من الضروري للكرملين إعادة ضبط أدواته في القارة، وضمان استمرار النفوذ دون صدام داخلي.

ومن هنا، جاء “فيلق أفريقيا” كبديل أكثر انضباطاً، لكنه يضم في تركيبته؛ كما تشير تقارير صحفية، أكثر من 70 في المئة من عناصر “فاغنر” السابقين، ما يعني أن المنهج لم يتغير، وإنما الأداة فقط.

ويمثل “فيلق أفريقيا” الآن ذراعاً أمنية مباشرة للكرملين، تستفيد من تراكم الخبرة القتالية والتمويل غير الرسمي، وتتحرك بهوامش واسعة في دول هشّة سياسياً، لكن الاعتماد المفرط على هذا النوع من الفاعلين لا يبشّر باستقرار، بل بتثبيت أنماط جديدة من السيطرة العسكرية المرتبطة بالمصالح لا بالقانون أو السيادة.

وتُراهن روسيا على أن تغلغلها في أفريقيا سيمنحها ورقة تفاوض إضافية في صراعها مع الغرب، لكن هذا الرهان محفوف بالمخاطر. إذ أن الاعتماد على الأنظمة العسكرية أو الفاشلة لتثبيت نفوذ خارجي قد يرتدّ عليها، خصوصاً في ظل تصاعد الوعي الشعبي، وعودة الاهتمام الأميركي – الفرنسي بالمشهد الأفريقي.

كما أن الانخراط الروسي في الصراعات الداخلية الأفريقية لا يجلب دائماً الامتيازات، بقدر ما يراكم الأعداء، ويعمّق العزلة الأخلاقية لموسكو، التي تقدم نفسها كـ”شريك أمني” في وقت تعاني فيه من عزلة دولية جراء خرقها للقانون الدولي في أوكرانيا.

7