الاستيقاظ على الهمجية في غزة

ميرتس انحرف بشكل غير متوقع عن موقف ألمانيا الراسخ تجاه إسرائيل وانتقد بشدة تصرفات نتنياهو في غزة.
الأربعاء 2025/06/11
تبدل المزاج الدولي من سياسات التجويع والقتل الإسرائيلية

يُعتبر الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لإسرائيل، بَيد أنّه لم يستغل ما تمنحه إياه مكانته لتغيير مسار حرب إسرائيل الوحشيّة على غزة.

لقد بدأ الضمير الأوروبي يتبين تدريجيا هدف إسرائيل المعلن المتمثل في إعادة الاستيلاء على القطاع وتهجير سكانه البالغ عددهم 2.4 مليون نسمة.

ويمكن إرجاع هذه الصحوة إلى حوادث مثل إطلاق الجيش الإسرائيلي النار على دبلوماسيين، من بينهم دبلوماسيون أوروبيون، والهتافات العنصرية “الموت للعرب” و”لتحترق قراهم” خلال مسيرة مدعومة من الدولة في القدس، وصور أعداد لا تحصى من الرضع الذين بدا عليهم الهزال وهم يواجهون سوء التغذية والجوع.

ودفع هذا أوروبا إلى إدراك الوحشية البالغة التي اتسم بها هجوم إسرائيل الذي استمر 20 شهرا على غزة.

ويُعيد هذا الوضع إلى الأذهان صورا تاريخية من 1945 عندما دخلت قوات الحلفاء معسكرات الاعتقال الألمانية وقصف سلاح الجو الملكي البريطاني مدينة دريسدن.

أزمة غزة لا تُمثل كارثة إنسانية فحسب، بل تجسّد أيضا انهيارا للمعايير القانونية الدولية التي وُضعت لمنع تكرار أهوال الحرب العالمية الثانية

ووجد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني فريدريش ميرتس، صعوبة في مواصلة إنكار أهداف الحكومة الإسرائيلية في غزة إثر الهجوم العنيف الذي شنته حماس في 7 أكتوبر 2023.

ويبدو أن سياسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تهدف، قولا وفعلا على حدّ سواء، إلى إعادة استيطان قطاع غزة وتهجير الفلسطينيين بشكل جماعي.

ويُعدّ تحوّل موقف ألمانيا جديرا بالملاحظة بشكل خاص، حيث يُشير إلى ظهور رباعية من القوى الأوروبية الكبرى (فرنسا، والمملكة المتحدة، وألمانيا، وإيطاليا) التي تُوجّه السياسة القارّية.

ومؤخرا، انحرف ميرتس بشكل غير متوقع عن موقف ألمانيا الراسخ تجاه إسرائيل.

وبصفته مؤيدا قويا للدولة العبرية، انتقد بشدة تصرفات الحكومة الإسرائيلية في غزة، مُصرّحا بأنها “لم تعد تُبرّر بمحاربة إرهاب حماس.”

ويتماشى هذا التغيير مع اتجاهات الرأي العام الأوسع، وأثار نقاشات حول استمرار تزويد إسرائيل بالأسلحة.

ويُقرّب تبني نهج أكثر انتقادا لنتنياهو، بدلا من تقديم دعم غير مشروط، موقف ألمانيا من موقف فرنسا وبريطانيا.

وتمكّن المؤرخ جان بيير فيليو من قضاء شهر في غزة خلال ديسمبر. وتواجد في القطاع بصفته ضيف شرف لمنظمة أطباء بلا حدود غير الحكومية.

وتمنع إسرائيل وصول الصحافة الدولية إلى غزة، حيث قُتل، وفقا لإحصائه، 202 من الصحافيين الفلسطينيين، من بينهم 25 امرأة.

رغم إنفاق مبالغ طائلة لدعم غزة، إلا أن المنطقة حُرمت من أيّ فرص تنمية حقيقية بسبب الاحتلال الإسرائيلي المستمر والصراعات الفلسطينية الداخلية.

ولا يُسمح للصحافيين الإسرائيليين بدخول غزة إلا إذا كانوا برفقة وحدات عسكرية إسرائيلية، ولا تعرض شاشات التلفزيون والصحف الإسرائيلية، باستثناء عدد قليل منها مثل صحيفة “هآرتس”، صورا لمسارح القتل في القطاع المحاصر.

يُذكّرنا فيليو بأن المحكمة العليا الإسرائيلية رفضت، في 19 ديسمبر 2023، طلبات وسائل الإعلام الأجنبية للسماح للصحافيين بدخول غزة، مُشيرة إلى “خطر جسيم على الجنود الإسرائيليين.”

ولم تُحرّك الحكومات الغربية، التي عادة ما تُدافع عن حرية الصحافة، ساكنا لإقناع إسرائيل برفع هذا التعتيم الإعلامي الصارم.

وتُواصل وسائل الإعلام الغربية عرض وجهات نظر “متوازنة” من كلا طرفي الصراع، ما يُسهم في غياب التعاطف في الغرب مع الضحايا المدنيين، وهو أمر يجده فيليو صاعقا.

“الأرض التي كنت أعرفها لم تعد موجودة. تعجز الكلمات عن وصف ما تبقى من غزة.”

لهذه الكلمات وقع خاص، فالكاتب من أبرز مؤرخي الشرق الأوسط في فرنسا. وهو يُدرّس التاريخ والسياسة في معهد الدراسات السياسية بباريس، وقد ألّف العديد من الكتب عن المنطقة، بما في ذلك كتاب عن غزة التي زارها بانتظام على مر السنين.

وتُضفي القصص المُفجعة التي يرويها أصدقاؤه في غزة، سواء كانت فردية أو عائلية، ثقلا على نص رصين مكتوب بلغة فرنسية كلاسيكية مُقيّدة.

ولا يُعبّر فيليو عن مشاعره بسهولة، سواء في الكتابة أو عند التحدث عبر الإذاعة أو التلفزيون، ما يُضفي على بعض جمله دقة جراحيّة.

ويُثير كتاب “مؤرخ في غزة” قلق الجماهير الأوروبية التي تُمطر يوميا بعبارات الدعم للأوكرانيين، الذين يستحقونها، ولكنهم لا يقلون عن الغزيين شأنا.

ويُطلق كبار المسؤولين في حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على الفلسطينيين علنا لقب “الحيوانات”، ما يُثير شعورا مُقلقا بأن حياة الفلسطينيين أو العرب تحمل أهمية أقل بالنسبة إليهم من حياة اليهود أو الأوروبيين.

ودخل فيليو غزة قُبيل عيد الميلاد سنة 2023، مسافرا بالحافلة ضمن قافلة من الأردن إلى جنوب غزة. وتُحاكي روايته عن الرحلة فيلم رعب. فمع بزوغ الفجر، يُصاب الكاتب بالذهول مما يراه. وتتحرك القافلة ببطء، بينما يعجز المشاة، المُصدومون من الألم وهدير الطائرات المُسيرة المُستمر والقصف، عن سماع صوت السيارة، حتى عندما يُطلق السائق بوقها.

ويُشبّه رجل مُسنّ يلتقيه فيليو على الطريق الساحلي مصيره بأغنام تُغذّى بما يكفي للتضحية بها في عيد الأضحى.

الحكومات الغربية، التي عادة ما تُدافع عن حرية الصحافة، لم تُحرّك ساكنا لإقناع إسرائيل برفع هذا التعتيم الإعلامي الصارم

ويُجيد فيليو العربية، ويعرف الكثير من الأشخاص الذين يلتقي بهم خلال رحلته، فينقل قصة صادقة عن أكثر من مليوني شخص يُواجهون القصف والجوع، ولا يملكون سوى متر ونصف المتر المربع للبقاء على قيد الحياة.

ووصف البابا الراحل فرنسيس الحرب على غزة بأنها “قسوة، وليست حربا.” ويصوّر الكاتب فيليو بوضوح الروائح الكريهة المنبعثة من أطنان النفايات غير المعالجة، ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي المدمرة، ونقص المياه، والمستشفيات التي تعرضت للقصف الممنهج حيث يموت الأطفال من انخفاض حرارة الجسم والجفاف.

ويروي كيف كان الأطباء والممرضون أهدافا سهلة للقناصة الإسرائيليين، وكيف دُمّرت الجامعات والمكتبات والوثائق الأكاديمية عمدا، وعن “عنف يُضاهي مشهد العشاء الأخير.”

ويعرف فيليو غزة منذ عقود، لكنه يضيع بين مبانيها المنهارة وأكوام أنقاضها. وكان قد شهد حروبا في أفغانستان وسوريا وأوكرانيا، لكن شيئا لم يُعِده لما رآه في غزة. وهذا ما يُفسّر “سبب منع إسرائيل الصحافة الدولية من تغطية هذا المشهد المروّع.”

ومن بين أكثر المشاهد المزعجة التي يصفها هدم المقابر بالجرافات، ثم إعادة الشاحنات الإسرائيلية الجثث (غالبا ما تكون جثتان أو ثلاث جثث في كيس) إلى مستشفيات غزة التي تضطر إلى رفضها. وتتميز حكومة نتنياهو بصلابة التعصب. لكن قليلا من الأصوات الإسرائيلية تُعارض سياسة تُخاطر بتحويل دولة تأسست في ظل المحرقة إلى أرضٍ تتجنبها دول كثيرة مهما كلف الأمر.

ويكشف هذا الكتاب عن الانقسامات العميقة داخل حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية، اللتين تصادمتا لعقود، ولا يكترث قادتهما بحياة الفلسطينيين العاديين بقدر اكتراث خصومهم الإسرائيليين لها.

ولا يتردد فيليو في انتقاده لمختلف الفصائل. فالانقسامات الداخلية القاتلة، التي غالبا ما تشجعها إسرائيل، تزيد من تفتيت مجتمع قائم تقليديا على العشائر القوية.

ويوثّق الكتاب برصانة تاريخ كتائب القسام النخبوية التي تسيطر عليها حماس، والتي انسحبت إلى الأمان النسبي في الأنفاق العميقة بعد هجومها المميت في 7 أكتوبر، تاركة المدنيين يتحملون وطأة الهجوم الإسرائيلي.

ويتحدّث كذلك عن هجرة الطبقة الوسطى الفلسطينية، والكثيرون من المنتمين لها يحملون جنسية مزدوجة.

وينفي فيليو الادعاءات الإسرائيلية بقتل 17 ألفا من أعضاء الكتائب، الذين يُقدر عددهم بين 25 و30 ألفا، واصفا هذه الإحصائية بأنها “بلا معنى”، ويشير إلى أن العديد من الشباب الفلسطينيين يتوقون للانضمام إلى حماس. ويروي الكاتب الوفيات العديدة التي أوقعتها قوات أمن حماس في صفوف الفلسطينيين الذين يتحدون سلطتها، بما في ذلك عمليات كسر الركبة الممنهجة وغيرها من أشكال التعذيب.

ويُميّز العنف والاستخفاف عالما يتجاهل النظام الدولي وقواعد الحرب. وتكشف خصخصة الولايات المتحدة وإسرائيل للمساعدات الإنسانية، إلى جانب الهجمات المتواصلة على الأمم المتحدة، عن واقع مُقلق. وتُهاجم عصابات فلسطينية قوافل الغذاء والسائقين والحراس التابعين للأمم المتحدة، ليُوجّه القادة الإسرائيليون اتهامات للأونروا بالعجز.

يبدو أن سياسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تهدف، قولا وفعلا على حدّ سواء، إلى إعادة استيطان قطاع غزة وتهجير الفلسطينيين بشكل جماعي

إن كون إسرائيل، الدولة التي وُلدت من رحم المحرقة، هي التي تُجوّع الآن وتقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وتُصيب الأطفال والنساء وتُشوّههم، يُشير إلى فقدان تامّ للبوصلة الأخلاقية.

وفي غضون ذلك، استغرقت أوروبا، التي تُعلن التزامها بالديمقراطية في كل خطب قادتها، وقتا طويلا للوصول إلى “نقطة تحول، تطوي صفحة جديدة بتواطئها مع حرب إسرائيل التي استمرت قرابة 20 شهرا على غزة،” على حد تعبير ناتالي توتشي، مديرة معهد الشؤون الدولية في روما. ويبرز هذا قارة نسيت الأهوال التي عانت منها بين عامي 1933 و1945.

ويخلص فيليو إلى كون قطاع غزة وشعبه عالقين في مأزق إنساني ثلاثي منذ 7 أكتوبر 2023. وتحدّث عن مأزق إسرائيلي، نابع من إصرارها على النظر إلى غزة من منظور أمنها القومي فقط، رغم أن هذا النهج لم يحمِها من تجربة أكثر أيامها دموية في تاريخها. وذكر أيضا مأزقا فلسطينيا، ناجما عن إعطاء الأولوية للمصالح الفصائلية على حساب رفاهية الشعب الفلسطيني. وأخيرا، مأزقا إنسانيا ناتجا عن هذه الديناميكيات، حيث “لا جدوى تُذكر من التظاهر بمساعدة شعب محروم من الأمل وتحت رحمة قوة احتلال.”

ورغم إنفاق مبالغ طائلة لدعم غزة، إلا أن المنطقة حُرمت من أيّ فرص تنمية حقيقية بسبب الاحتلال الإسرائيلي المستمر والصراعات الفلسطينية الداخلية.

ولا تُمثل أزمة غزة كارثة إنسانية فحسب، بل تجسّد أيضا انهيارا للمعايير القانونية الدولية التي وُضعت لمنع تكرار أهوال الحرب العالمية الثانية.

إن الأوصاف الحية والموجزة للمعاناة الإنسانية في غزة، التي تُفصّل القسوة الجماعية المتواصلة التي تُمارس على المدنيين العزل شهرا بعد شهر، ستترك انطباعا لا يُنسى لدى القراء.

وتُمثّل ساحات القتل في غزة مقدمة صارخة لما يُحذّر المؤلف من أنه سيكون “عالما بائسا… متروكا لأمثال ترامب ونتنياهو وبوتين وحماس.”

وسيُعجّل تخلينا عن غزة بظهور عالمٍ كهذا. وكان الصحافي الفرنسي بيوتر سمولار قد نشر على صفحات صحيفة “لوموند” في 20 فبراير 2018 أن “غزة تشبه مختبرا تجريبيا يهدف إلى قياس قدرة مليوني فأر تجارب على الصمود في جرّة مُحكمة الغلق.”

 

اقرأ أيضا:

     • قيام دولة فلسطينية هو ما يوقف القتل

7