الصحف الحكومية بمصر تتكئ على توسيع الرقمنة لتفادي التصفية

لدى المؤسسات الصحفية قوائم من الكفاءات، لكن يتم تنحيتها جانبا، مقابل اختيار عناصر بعينها بذريعة أنها أكثر ولاء للحكومة.
الثلاثاء 2025/06/10
جار البحث عن أدوات مبتكرة

القاهرة – حسمت الهيئة الوطنية للصحافة المسؤولة عن الإشراف على المؤسسات الصحافية القومية (الحكومية) في مصر، قرارها بعدم إلغاء الصحف الورقية وإن سرّعت تحركاتها نحو التحول الرقمي من أجل مجاراة التطور التكنولوجي، الذي فرض نفسه بعد عزوف شريحة كبيرة من الجمهور عن الإعلام التقليدي، ما عدّه نواب برلمانيون خطوة إيجابية، لكنها غير كافية في ساحة تشهد منافسة إعلامية حادة.

وخصصت لجنة الإعلام بمجلس الشيوخ المصري جلسة مطولة أخيرا، لتشخيص المشكلات التي تواجه الصحف القومية، ومحاولة إيجاد حلول جذرية لها، وجرى الاتفاق على أن التحول الرقمي السبيل لخروج المؤسسات الصحافية من أزماتها، طالما أن فئة كبيرة من الجمهور لا يروق لها شراء صحيفة ورقية، بقدر ما تبحث عن وسيلة رقمية للحصول على المحتوى السريع.

أكد رئيس الهيئة الوطنية للصحافة عبدالصادق الشوربجي وجود توجه لتحويل جميع المؤسسات الصحافية القومية إلى الشكل الرقمي، مع استمرار النسخة الورقية، بالتعاون مع وزارة الاتصالات، لأنها أصبحت تدر أرباحا معقولة، مستشهدا بما حققته صحيفة “الأهرام” التي يتابعها الملايين من المواطنين من خلال محتوى النسخة الرقمية.

حسن علي: التحول الرقمي للصحف لا يكفي دون إرادة لتطوير المحتوى
حسن علي: التحول الرقمي للصحف لا يكفي دون إرادة لتطوير المحتوى

وتقرر الانفتاح على الشراكة مع القطاع الخاص في مشروعات رقمية تخص الصحف القومية، مثل إسناد إدارة صفحات كل مؤسسة على شبكات التواصل الاجتماعي إلى شركة خاصة تملك أدوات مبتكرة لمخاطبة الجمهور، خاصة وأن الكثير من المؤسسات لديها إمكانيات كبيرة، لكنها عاجزة عن التسويق بشكل جيد، ولا تزال تتعاطى مع تطلعات القراء بطريقة عفا عليها الزمن.

وبدأت الكثير من الصحف الحكومية الرقمنة منذ سنوات، وأخفقت في توظيف ذلك، لأن المواقع الإلكترونية المملوكة للمؤسسات القومية تبدو نسخة مكررة من الصحيفة الورقية، من حيث التقليد في المحتوى وعرضه للجمهور، وفي كل حديث عن التطوير يتحجج المسؤولون بالوضع الاقتصادي لتبرير عدم شراء مستلزمات حديثة للتطوير.

ولدى الكثير من الصحافيين في المؤسسات الحكومية استعداد لتقديم أفضل محتوى بأقل الإمكانيات المتاحة، على عكس روايات بعض المسؤولين، لكن المشكلة في وجود إدارات تميل إلى الالتزام بالرواية الرسمية فقط، وهي إشكالية عمّقت أزمات الصحف وأصابت العاملين فيها بإحباط، ظهر في أدائهم، ومنهم من ارتضى أن يصبح مجرد موظف أمام تشعب القيود.

وتُطبق في الصحف الحكومية سياسة تحريرية محاطة بجملة من المحاذير، وإن لم يُطلب من الإدارة ذلك رسميا، والكثير من رؤساء التحرير يرون أن التجويد والتعمق والتحليل والتطوير وتلبية احتياجات الجمهور من تقديم محتوى جاد ومتوازن وجذاب، قد يوقعهم في محظورات سياسية تجعلهم في مرمى الاتهام بالخروج عن النص.

وينطبق هذا الفهم على الصحيفة الورقية والإلكترونية، ما جعل كل مؤسسة شبه عاجزة عن التطوير، ولو أطلقت أكثر من موقع إخباري عصري، لأنها تقدم ذلك للجمهور منذ البداية على أنها متحدثة بلسان الحكومة، وباتت تجربة التحول الرقمي في أغلب المؤسسات دون المستوى، ولم تستطع انتشال الصحافة من عثراتها، لأن التوسع فيها يحدث بطريقة عقيمة وتدعم الحكومة رقمنة الإصدارات الصحفية المملوكة لها، وتبدو صيغة مقبولة للتخلص من عبء دعم المؤسسات الصحفية سنويا بالمليارات من الجنيهات، رغم أنها لا تؤثر في الرأي العام ولا تستطيع توصيل رسائل الدولة جيدا إلى المواطنين، ولا تجلب عوائد مالية تُمكّنها من الاعتماد على نفسها، وتطلب مساعدات لتجنب الاندثار.

ويعد توسيع التحول الرقمي للصحف الحكومية خطوة لتجنب الاختفاء من المشهد، لكن المعضلة سوف تظل مرتبطة بالتقليدية التي تتعامل بها كل صحيفة، في العناوين الروتينية وعدم التطرق إلى قضايا حيوية مطروحة على الشبكات الاجتماعية، علاوة على سطحية المحتوى، ما ينعكس بشكل سلبي على مستوى التسويق وجلب العوائد.

وتفتقد الصفحات الرسمية للمواقع الإلكترونية والصحف الحكومية على مواقع التواصل الحد الأدنى من التفاعل من جانب الجمهور، ومع أن كل صحيفة تضم مئات الآلاف من المشتركين، لكنهم لا يتفاعلون مع ما يُنشر من محتوى لأن الكثير من تلك الصحف في نظر القراء “نشرة” حكومية تفتقد العمق والتفرد ولا تقدم معلومة جديدة.

على خلاف الصحف الرقمية المستقلة أو المملوكة للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، والتي تعتمد على التسويق الخبري الجذاب على الشبكات الاجتماعية، مستفيدة من وجود 50.7 مليون مصري يستخدمون الإنترنت ويتصفحون وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا رقم ضخم للصحف جماهيريا ودعائيا وماديا، لكن الأمر يتطلب معايير على رأسها المحتوى الجذاب.

تفتقد الصفحات الرسمية للمواقع الإلكترونية والصحف الحكومية على مواقع التواصل الحد الأدنى من التفاعل من جانب الجمهور، ومع أن كل صحيفة تضم مئات الآلاف من المشتركين

ويعتقد البعض من العاملين في المؤسسات القومية في مصر أن الإخفاق في تجربة التحول الرقمي مرتبط بعدم فهم كل إدارة لطبيعة المحتوى الذي يبحث عنه رواد المنصات بعيدا عن التحول إلى صوت للحكومة ونشر البيانات الرسمية، وإذا التزمت الصحف الحكومية بعدم اللهاث وراء الإثارة لتوفر البديل المهني الذي تعمل عليه.

ويخلو المحتوى المقدم في الصحف الرقمية القومية من نقد للمسؤولين أو التفرد بأخبار يبحث عنها الجمهور أو ممارسة الدور الرقابي المطلوب منها على أداء الجهات الحكومية، وأمام الوقوف عند نقطة واحدة دون تطور، تفقد جماهيريتها عند جمهور الشبكات الاجتماعية، بالتوازي مع غياب التقنيات الحديثة في تقديم المحتوى.

قال عميد كلية الإعلام بجامعة المدينة في القاهرة حسن علي إن التوسع في التحول الرقمي للصحف لا يكفي دون إرادة لتطوير المحتوى، والعِبرة ليست في شكل الصحيفة ورقية أم إلكترونية، وكل ما يهم القارئ أن يجد ما يبحث عنه، وليس ما يريد المسؤولون قوله للناس، وهذا يعني أن العصرنة بلا حلول مهنية عالية سوف تُبقي الوضع الراهن بما يجعل كل الأطراف خاسرة.

وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن نجاح التحول الرقمي للصحف القومية أو غيرها ليس عملية صعبة، المهم تلبية احتياجات الجمهور والسماح بسقف حرية منضبط يقنع الجمهور بأن الصحيفة تتمتع بمصداقية وتستحق المتابعة، والاعتماد على الكفاءات التي تستطيع صناعة الفارق في مهنة تتغير سريعا ولم تعد أمام المؤسسات رفاهية للعمل بشكل تقليدي.

ولدى المؤسسات الصحفية قوائم من الكفاءات تستطيع وضعها في المكانة التي تستحقها، لكن يتم تنحيتها جانبا وعدم استغلال طاقاتها وأفكارها، مقابل اختيار عناصر بعينها بذريعة أنها أكثر ولاء للحكومة، مع أن هناك كفاءات نجحت في تأسيس تجارب صحفية خاصة بتوازن ومهنية ولم تُثر منغصات سياسية، وكان يُمكن الاعتماد عليها لجعل المؤسسات القومية متفردة.

وأمام عدم وجود رؤية للاستفادة من المخزون البشري في كل مؤسسة صحفية حكومية أصبح أغلبهم من العاطلين عن العمل، أو يلجأون إلى منابر خارجية لإفراغ طاقاتهم عبر تقديم محتوى متميز ونوعي، لأن الصحيفة الأم لم تستفد منهم، إلى درجة أن هناك صحفا مستقلة نجحت في منافسة نظيرتها القومية بمحررين يعملون في إصدارات حكومية ورقية ورقمية، لكن يُساء استغلالهم.

5