في ذكراه.. نجيب الريحاني أخلص للفن فمنحه جماهيرية لا تموت

القاهرة - نجيب الريحاني أحد أبرز وجوه المسرح العربي في النصف الأول من القرن العشرين، وقد تميز بتقديم الكوميديا السوداء، وأصبح أشهر ممثل ساخر في تاريخ المسرح العربي. لم يكن مجرد فنان، بل كان مؤمنا برسالة فنية سامية، يُقدّس المسرح ويعتبره جزءا من حياته، حتى إنه في عام 1942، وعندما نصحه طبيبه بالابتعاد عن المسرح لستة أشهر حفاظا على صحته، قال “خير لي أن أقضي نحبي فوق المسرح، من أن أموت على فراشي.”
وكان الريحاني حريصا على ظهور جميع أفراد فرقته في أفضل صورة، رافضا أن يكون النجم الأوحد. وعلى الرغم من اتهامه أحيانا بالكسل بسبب تقديم مسرحية واحدة لفترات طويلة، إلا أنه كان يرد قائلا “خير لي أن أواجه الجمهور بمسرحية واحدة كاملة، من أن أقدم له عشرة مسرحيات ضعيفة، أو فيها مواضع ضعف.”
كان لا يبخل على فنه أبدا، ولا يهتم بالربح المادي بقدر ما يهتم بإخراج عمل مسرحي متكامل، حتى لو أدى ذلك إلى تراكم الديون عليه. وقد نال فنه تقديرا محليا، إقليميا، وعالميا. فقد أعجب به السير سايمور هيكس عميد المسرح الإنجليزي، واعتبره من نجوم الصف الأول عالميا. كما حاز احترام رموز مصر مثل طلعت حرب، وسعد زغلول، وهدى شعراوي، وغيرهم.
عرف بحسّه الوطني الثائر، فمسرحياته كانت سلاحا لمحاربة الاستعمار والظلم والقهر، وكان يؤمن بالحظ، والتفاؤل، والأحلام.
ولد نجيب إلياس ريحان، ذو الأصول العراقية، عام 1889، في حارة مصطفى بحي باب الشعرية، وكان والده تاجر خيول. تلقى تعليمه في مدرسة “الفرير” بالخرنفش، حيث تعلم اللغة الفرنسية، ومال إلى دراسة آداب اللغة العربية، خصوصا الشعر وتاريخ الشعراء. وقد لفت أنظار أستاذه الشيخ بحر إلى موهبته في الإلقاء، فشجّعه على تمثيل بعض الروايات في مسرح المدرسة.
رغم نجاحه المسرحي الساحق كان نجيب الريحاني على وشك التراجع عن مشروع السينما لولا نجاح فيلمه الثالث
بعد الدراسة، عمل موظفا في البنك الزراعي بالقاهرة، وهناك تعرّف على عزيز عيد، وارتبط الاثنان بحب التمثيل. فكانت أولى رواياته المسرحية “الملك يلهو”، من ترجمة الأديب أحمد كمال رياض (بك).
في عام 1908، استقال عزيز عيد من عمله وأسس فرقته التمثيلية الأولى، وانضم نجيب إليه وانشغل بالفن على حساب وظيفته حتى فُصل من البنك. التحق بعد ذلك بفرقة سليم عطا الله في الإسكندرية، وفي أول عرض له خطف الأضواء حتى من مؤسس الفرقة، مما أدى إلى الاستغناء عن نجيب.
عاد عام 1910 للعمل مجددا في شركة السكر بنجع حمادي، لكنه فُصل مرة أخرى، فالتحق بفرقة الشيخ أحمد الشامي الجوالة كممثل ومعرّب للروايات الفرنسية براتب 4 جنيهات شهريا. وعندما عُرضت عليه العودة للعمل في الشركة، قبل العرض نظرا إلى صعوبة الظروف المعيشية. عاد إلى شركة السكر براتب 14 جنيها، وأقسم حينها ألا يعود للتمثيل مجددا.
لكن القدر كان له رأي آخر. ففي عام 1912، أبلغه صديقه عزيز عيد بعودة جورج أبيض من أوروبا وتأسيسه فرقة جديدة. رفض في البداية، ثم في 1914 فُصل من عمله بالشركة، فذهب لمشاهدة مسرحية “أوديب الملك” لفرقة جورج أبيض، وفي هذا اليوم أقرض الفرقة 25 جنيها لتسديد أجور الممثلين، ومن ثم عُرض عليه الانضمام إليها لسداد الدين بالتقسيط. فوافق، واستمر معهم حتى كوّن مع مجموعة من الممثلين فرقة جديدة باسم “فرقة الكوميدي العربي”.
كان أول عروض الفرقة على مسرح برنتانيا بمسرحية “خلي بالك من إميلي”، نقلها عن الفرنسية أمين صدقي. وقد رفض نجيب أداء الدور الكوميدي في البداية، لكنه فوجئ بنجاحها الجماهيري.
في مايو 1916، انفصل الريحاني عن الفرقة، وفي يوليو التحق بمسرح “أبيه دي روز” عبر صديقه استيفان روستي، حيث ظهرت لأول مرة شخصية “كشكش بيه” التي صارت أيقونة. ثم انتقل إلى تياترو “الرينسانس”، ما أثار غضب صاحب “أبيه دي روز” الذي ادعى اختراع شخصية “كشكش”، فرفع عليه قضية خسرها، وكانت نهاية “أبيه دي روز”.
مسرحيات الريحاني كانت سلاحا لمحاربة الاستعمار والظلم والقهر، وكان يؤمن بالحظ، والتفاؤل، والأحلام
في “الرينسانس”، قدم الريحاني مسرحيات “ابقى قابلني”، و”كشكش بيه في باريس”، و”وصية كشكش”. ثم أسس مع فرقته مسرحا خاصا باسم “الإجبسيانة”.
وبعد وفاة المسرحي الشيخ سلامة حجازي عام 1917، طلب الريحاني وقف العروض حدادا، فدخل في خلاف مع مالك المسرح “المسيو كنجس”، وتركه مؤقتا قبل أن يعود إليه باتفاق جديد يحصل فيه “كنجس” على 30 في المئة من الإيرادات، بينما تولى الريحاني إدارة المسرح لأول مرة.
بعد تطور الفرقة إلى تقديم الروايات الاستعراضية، تركها المؤلف أمين صدقي، وانضم المؤلف والشاعر بديع خيري، الذي أصبح رفيق درب الريحاني حتى النهاية، وكذلك حسين شفيق المصري، وكان بها الملحن كاميل شامبير، ثم لاحقا الشيخ سيد درويش.
قدمت الفرقة عروضا وطنية أثارت مضايقات وصلت إلى حد التهديد بالاغتيال. وعندما ضاق الحال بصديقه عزيز عيد، أسس الريحاني لعزيز فرقة “الكازينو” وقدّم رواية “اللحية الزرقاء” التي عربها محمود تيمور لتصبح “العشرة الطيبة”، بمشاركة بديع خيري وسيد درويش.
لاحقا كتب بديع خيري أولى رواياته للمسرح، “الليالي الملاح”، شارك فيها الريحاني الفنانة بديعة مصابني، ومن ثم “الشاطر حسن” و”أيام العز”.
انطلقت فرقة الريحاني في جولات عالمية، وقدمت عروضا في بلاد الشام، أميركا، فرنسا، تونس، الجزائر، المغرب، ودول أميركا الجنوبية.
كان فيلم “ياقوت” أول ظهور له في السينما، لكن الريحاني لم يكن راضيا عنه، إذ اضطر إليه لحاجته المادية. ثم جاء فيلم “بسلامته عاوز يتجوز”، وكان أسوأ من سابقه بسبب مخرجه الأجنبي الذي لم يفهم روح الكوميديا المصرية. ورغم نجاحه المسرحي الساحق، كان على وشك التراجع عن مشروع السينما لولا نجاح فيلمه الثالث “سلامة في خير”، الذي فتح له أبواب النجاح السينمائي في جميع أعماله اللاحقة.
في الثامن من يونيو 1949، رحل نجيب الريحاني عن عالمنا، بعد أن قدم عمره كله للفن بإخلاص وصدق لا مثيل له. رحل الجسد، لكن بقي الاسم خالدا، محفورا في ذاكرة الفن المصري والعربي ما دام الناس أحياء.