قطاع الطيران في مواجهة تحديات أمنية واقتصادية غير مسبوقة

في ظل تصاعد الصراعات الإقليمية بات قطاع الطيران من أكثر الصناعات تعرّضًا لتحديات أمنية واقتصادية غير مسبوقة. ولم يعد الحديث مقتصرًا على معاناة المسافرين نتيجة لتأخر مواعيد الإقلاع أو إلغاء الرحلات المفاجئ؛ إذ أصبحت التهديدات الأمنية عنصرًا أساسيًا يعيق التخطيط ويزيد تكاليف التشغيل.
نيودلهي/لندن - المعاناة التي يواجهها المسافرون في المطارات نتيجة لتأخر مواعيد الإقلاع وإلغاء الرحلات ليست المشكلة الوحيدة التي يواجهها هذا القطاع، ففي ظل تفشي النزاعات والصراعات الإقليمية، أصبح قطاع الطيران أحد أكثر القطاعات تعرضًا للتحديات الأمنية والاقتصادية التي تؤثر بشكل مباشر على عمليات الشركات وربحيتها.
ويقول مسؤولون تنفيذيون في قطاع الطيران إن انتشار الصراعات يزيد من الأعباء على كاهل عمليات شركات الطيران وعلى ربحيتها إذ يجعل تلك الشركات تواجه صعوبات من تزايد خطر الصواريخ والطائرات المسيرة وإغلاق المجالات الجوية وتزييف المواقع الجغرافية.
وتتحمل شركات الطيران نفقات أكبر وتفقد من حصتها السوقية بسبب إلغاء الرحلات الجوية وتغيير المسارات المكلف الذي عادة ما تضطر إليه بناء على إشعارات قبيل الرحلات بفترة وجيزة. وبدأ قطاع الطيران في الاستثمار أكثر في البيانات والتخطيط الأمني.
فحتى إشعارات الإغلاق التي تصدر قبل موعد الرحلة بفترة وجيزة قد تُسفر عن تغييرات حادة في المسارات، ما يزيد من المخاطر التشغيلية والمالية لشركات الطيران. وتعتبر هذه التطورات جزءًا من سيناريوهات الحرب الحديثة التي تمتد أساليبها لتشمل الفضاء الجوي، ما يفرض على الشركات ضرورة تعزيز دفاعاتها واتخاذ إجراءات استباقية لمواجهة المخاطر الأمنية المتزايدة.
وتتعرض شركات الطيران لأعباء مالية كبيرة نتيجة لهذه المخاطر، إذ يتوجب عليها تحمل تكاليف إضافية لإعادة جدولة الرحلات وتنفيذ مسارات بديلة أكثر تكلفة. وتذكر التقارير أن شركات الطيران فقدت من حصتها السوقية بسبب إلغاء الرحلات الجوية المفاجئ، ما يؤدي إلى خسائر كبيرة في الإيرادات وتعطل تشغيل البرامج التشغيلية طويلة الأجل. فحتى التغييرات الطارئة في مسارات التحليق، التي تُفرض بناءً على إشعارات قصيرة الأمد، تؤثر في تكاليف الوقود وصيانة الطائرات وتنظيم جداول الرحلات.
ويضاف إلى ذلك الاستثمار الكبير المطلوب في أنظمة التخطيط والتنبؤ الأمني، إذ بات الاعتماد على البيانات الحية والتحليلات المتطورة ضرورة لا غنى عنها لتأمين السير في الفضاء الجوي وتحقيق أعلى درجات الكفاءة.
ويقول جاي موراي، مسؤول أمن الطيران في شركة طيران (توي) الأوروبية إنّ “التخطيط للرحلات الجوية في مثل هذه الظروف بالغ الصعوبة… ينتعش قطاع الطيران على أساس وضوح التوقعات وغيابها سيؤدي دائما إلى نفقات أعلى.”
ما قاله موراي يلخص التحدي المركزي الذي يواجهه القطاع؛ حيث أن عدم استقرار الأوضاع الجيوسياسية يؤدي إلى تغيير دائم في مسارات الرحلات وتعديل جداولها ما يضع عبئًا ماليًا وإداريًا غير مسبوق. ومع تزايد إغلاق المجالات الجوية بسبب الحروب والصراعات حول روسيا وأوكرانيا وفي الشرق الأوسط وبين الهند وباكستان وفي مناطق من أفريقيا، لم يعد لدى شركات الطيران سوى القليل من خيارات مسارات التحليق بين وجهاتها.
ويقول مارك زي مؤسس أو.بي.إس جروب المعنية بتبادل معلومات مخاطر الطيران “بالمقارنة بما كان عليه الوضع قبل خمس سنوات، أكثر من نصف الدول التي يتم التحليق عبرها في رحلة اعتيادية بين أوروبا وآسيا تحتاج الآن إلى مراجعة دقيقة قبل كل رحلة جوية.” وتسبب الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني الدائر حاليا والذي اندلع في أكتوبر 2023 إلى تحليق طائرات تجارية في ذات المناطق التي تشهد انطلاق وابل من طائرات مسيّرة وصواريخ دون سابق إنذار في مسارات أساسية للطيران، وقيل إن بعضها كان قريبا بما يكفي ليراه الطيارون والركاب.
وتواجه مطارات روسية بما في ذلك مطارات في العاصمة موسكو عمليات إغلاق متكررة لفترات وجيزة بسبب نشاط الطائرات المسيّرة، كما يتزايد التلاعب في أنظمة الملاحة، في ما يعرف بتزييف المواقع الجغرافية، حول مناطق الاضطرابات السياسية حول العالم. وعندما نشبت أعمال قتالية بين الهند وباكستان الشهر الماضي، أغلقت كل دولة مجالها الجوي في وجه الأخرى.
◙ تجربة شركات الطيران مع المخاطر الأمنية درس قاس في كيفية تعامل القطاع مع تغيرات البيئة الجيوسياسية والاقتصادية
وقال نيك كارين نائب رئيس الاتحاد الدولي للنقل الجوي (إياتا) للعمليات والأمن والسلامة للصحافيين في الاجتماع السنوي للاتحاد في نيودلهي الثلاثاء “المجال الجوي لا يجب أن يُستغل كأداة انتقام، لكن هذا يحدث.” وأشار مسؤول للعمليات في شركة إنديجو للطيران إلى أن عمليات تحويل مسار الرحلات الجوية التي تتم في الآونة الأخيرة تقوض جهود تقليل الانبعاثات وزيادة كفاءة شركات الطيران.
وبعيدا عن مسألة التكلفة والتمويل، يشكل تعرض الطائرات للاستهداف سواء كان ذلك عمدا أو عن غير قصد أسوأ الاحتمالات. وفي ديسمبر الماضي تحطمت طائرة تابعة للخطوط الجوية الأذرية في كازاخستان ما أسفر عن مقتل 38 كانوا على متنها. وقال رئيس أذربيجان ومصادر لرويترز إن دفاعات جوية روسية أسقطت الطائرة عن طريق الخطأ.
وفي أكتوبر الماضي تم إسقاط طائرة شحن في السودان ما أسفر عن مقتل خمسة أشخاص. وذكرت أوسبري فلايت سوليوشنز المعنية بتقديم استشارات تتعلق بمخاطر الطيران أن ست طائرات تجارية أسقطت منذ 2001 كما تجنبت ثلاث ذلك المصير بالكاد.
وقال ويلي والش المدير العام لإياتا هذا الأسبوع إن الحكومات تحتاج إلى تبادل المعلومات بصورة أكثر كفاءة من أجل الحفاظ على سلامة الطيران المدني في ظل انتشار مناطق الصراعات وتوسعها.
وتظهر إحصاءات السلامة التي يستخدمها قطاع شركات الطيران التجاري تراجعا مطردا في الحوادث على مدى العقدين الماضيين لكن ذلك لا يشمل الحوادث المتعلقة بالأمن مثل تعرض الطائرات للإسقاط بسلاح. وقال اتحاد إياتا في فبراير 2025 إن الحوادث والوقائع المتعلقة بمناطق الصراع هي مصدر القلق الأول لسلامة الطيران بما يتطلب تنسيقا عالميا عاجلا.
وتتخذ كل شركة طيران قرارات وجهات السفر بناء على مجموعة من الإخطارات الحكومية وتقييمات المستشارين الأمنيين وتبادل المعلومات بين الشركات والدول، وهي أمور تؤدي في مجملها إلى التباين في السياسات المتبعة.
وتسبب إغلاق المجال الجوي الروسي أمام أغلب شركات الطيران الغربية منذ اندلاع الحرب الأوكرانية في 2022 في تكبد تلك الشركات نفقات أعلى مقارنة بنظيراتها في الصين والهند والشرق الأوسط التي واصلت التحليق عبر المسارات الشمالية الأقصر التي تتطلب وقودا أقل وعددا أقل أيضا من أفراد الأطقم.
وتظهر بيانات التتبع من موقع فلايت رادار 24 أن التقييمات المتباينة للمخاطر جعلت رحلة لخطوط طيران سنغافورة على سبيل المثال التي تقلع من سنغافورة إلى أمستردام تسلك ثلاثة مسارات مختلفة للوصول إلى أوروبا في فترة تزيد قليلا عن العام. فعندما تبادلت إيران وإسرائيل شن الضربات الصاروخية والهجمات بالمسيّرات في أبريل 2024، بدأت في العبور فوق أفغانستان التي كانت تتجنبها في السابق بدلا من التحليق عبر إيران.
وفي الشهر الماضي، تغير المسار مجددا لتجنب المجال الجوي الباكستاني مع تصاعد النزاع بين الهند وباكستان. وتصل ذات الرحلة الآن إلى أوروبا عبر الخليج والأجواء العراقية. ولم ترد الخطوط الجوية السنغافورية بعد على طلب للحصول على تعليق.
◙ تجاوز هذه التحديات مستقبلا يتطلب اعتماد نهج متكامل يجمع بين الاستثمار في التكنولوجيا وتبني سياسات أمنية أكثر مرونة وقوة
ويتطلب تجاوز هذه التحديات مستقبلًا اعتماد نهج متكامل يجمع بين الاستثمار في التكنولوجيا، وتحسين التنسيق الدولي، وتبني سياسات أمنية أكثر مرونة وقوة. وفي ظل الاستمرار في احتمالية الصراعات والنزاعات التي تؤدي إلى إغلاق المجالات الجوية، من المهم أن تعمل شركات الطيران بالتوازي مع الجهات الحكومية والهيئات الأمنية لوضع حلول مستدامة تضمن استمرارية العمليات دون تكبد المزيد من الخسائر المالية واللوجستية.
وتبرز أهمية الاستثمار في التقنيات الحديثة والتحالفات الدولية لضمان استقرار عمليات الطيران، وفي الوقت ذاته يُسلط التعبير عن هذه التحديات الضوء على الحاجة إلى سياسات أمنية واقتصادية شاملة توازن بين متطلبات التنمية والنهوض بالتنافسية وبين حماية الأرواح والممتلكات. ومع استمرار الصراعات وتطور أساليب الهجوم، يبقى المستقبل مجهولاً للقطاع الجوي، لكن التكامل بين التكنولوجيا والتخطيط الأمني والاجتماعي يمكن أن يكون السبيل لتعزيز النقل الجوي رغم تقلبات البيئة الأمنية العالمية.
كما أن التكيف مع المتغيرات الأمنية يتطلب استجابة سريعة وفعالة، كما يدعو إلى تعزيز الحوار بين الهيئات التنظيمية وشركات الطيران والمجتمع الدولي، لضمان تحقيق أعلى درجات الأمان والكفاءة التشغيلية وبالتالي حماية مصالح المسافرين والعاملين في القطاع، وتحقيق نمو اقتصادي مستدام في ظل التحديات المعاصرة.