صراع النفوذ المالي يتأجج بين الدبيبة والبرلمان بسبب الانفاق الموازي

الدبيبة ينتقد قرار البرلمان بشأن ميزانية صندوق التنمية، معتبرا ذلك تهديدا مباشرا للاستقرار الاقتصادي ومحاولة لفرض واقع مواز خارج النظام المالي الموحد.
الثلاثاء 2025/06/03
الدبيبة يقلب على الطاولة على منتقديه بعد اتهامه بالفساد

طرابلس – يمثل رفض رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية المنتهية ولايتها، عبدالحميد الدبيبة، القاطع لأي "مسارات موازية للإنفاق العام"، مشهدا صارخا يعكس عمق الهوة السياسية والانقسام المالي الذي يُمزق ليبيا.

يأتي هذا الموقف عقب موافقة مجلس النواب على إعداد ميزانية خاصة بـ"صندوق التنمية وإعادة إعمار ليبيا" التابع له، في خطوة يُنظر إليها على أنها تُعمّق التوتر بين الأطراف المتنافسة على السلطة والنفوذ، وتُهدد ما تبقى من استقرار مالي واقتصادي للبلاد.

وتعيش ليبيا في دوامة من الأزمات المتتالية منذ أكثر من عقد، تفاقمت خلال السنوات الثلاث الماضية مع بروز حكومتين متنافستين: حكومة في طرابلس برئاسة الدبيبة، التي تسيطر على غرب البلاد، وحكومة أسامة حماد في بنغازي، المكلفة من مجلس النواب وتدير شرق البلاد وبعض مناطق الجنوب.

وهذا الانقسام السياسي لم يقتصر على توزيع السلطة، بل امتد ليشكل شرخا عميقا في المؤسسات المالية والاقتصادية، مما أدى إلى ازدواجية في الإنفاق وتدهور متواصل في الأوضاع المعيشية للمواطنين.

وشهدت طرابلس، خلال الأيام قليلة الماضية، اشتباكات مسلحة بين قوات حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها وتشكيلات مسلحة، إضافة إلى توترات سياسية متمثلة في مظاهرات واحتجاجات تطالب برحيل حكومة الدبيبة الذي أجبر موظفين حكوميين على المشاركة في مظاهرات داعمة له وفق المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان، مما يسلط الضوء على الهشاشة الأمنية التي تُهدد العاصمة الليبية.

وفي خضم هذه الفوضى، وافق مجلس النواب في بنغازي على إعداد ميزانية لـ"صندوق التنمية وإعادة إعمار ليبيا".

ويُعد هذا الصندوق، الذي أُنشئ قبل نحو عامين ويرأسه بلقاسم حفتر، نجل المشير خليفة حفتر، بمثابة آلية تمويل موازية تُتيح للبرلمان التعاقد مع شركات عالمية لتنفيذ مشاريع إعمار وتمويلها مباشرة دون المرور بحكومة طرابلس، مما يزيد من تعقيد المشهد المالي والسياسي.

كما قرر المجلس "تشكيل لجنة تضم عضو عن كل دائرة (مدينة) للاجتماع مع إدارة الصندوق لإعداد الميزانية لتوضيح كيفية صرفها على جميع المناطق"، وفق بيان للمجلس.

وأعرب الدبيبة، خلال اجتماع مع أعضاء من المجلس الأعلى للدولة (فريق محمد تكالة)، عن رفض حكومته القاطع "لأي مسارات موازية للإنفاق العام خارج الأطر الشرعية". وفق بيان لمنصة "حكومتنا" الرسمية على فيسبوك.

وناقش الدبيبة وأعضاء مجلس الدولة "التطورات السياسية والاقتصادية الجارية ومتابعة مشروع الحكومة لبسط الاستقرار وتوحيد المؤسسات"، وفق البيان.

كما ناقش الاجتماع "حماية الاقتصاد الوطني من العبث المالي الموازي"، وفق البيان.

وحذر الدبيبة من أن "هذه الممارسات تُحمل الدولة أعباء مالية ضخمة تُصرف في أبواب غير حقيقية ثم يُعاد تعويضها عبر الدين العام ما يعني عمليًا خصمًا من جيب المواطن وخفضًا فعليًا لقيمة دخله"، على حد قوله.

وشدد على أن "المواطن الليبي لن يستفيد من مشاريع تُنفذ بأسعار مُضاعفة خارج النظام المالي الموحد".

وترى حكومة الدبيبة أن هذه الخطوة تمثل خرقًا خطيرًا للمنظومة المالية، وتجسيدًا صارخًا لواقع "السلطة الموازية" في شرق ليبيا. يرى مراقبون أن ما يحدث ليس مجرد خلاف إداري عابر، بل هو معركة سياسية طاحنة تُخاض في ساحة المال وعائدات النفط الحيوية.

وبينما يُعارض الدبيبة بشدة أي تدخل من مجلس النواب في إدارة الموارد أو إنشاء صناديق مالية خارج الإطار الدولي المعترف به، تُلوّح الحكومة الموازية، بقيادة أسامة حماد والمدعومة من البرلمان، بورقة النفط كسلاح ضغط. تُهدد هذه الحكومة بوقف الإنتاج أو إعلان "القوة القاهرة" إذا استمر تجاهلها كممثل شرعي لجزء كبير من الأراضي الليبية.

وفي هذا السياق طالب الدبيبة، رئيس مجلس النواب "بالإفصاح عن مصير أكثر من 100 مليار دينار تم إنفاقها خارج الميزانية العامة خلال العامين الماضيين"، دون مزيد من التفاصيل.

وأكد على أن "هذه المطالبة لا تأتي من باب الشفافية فقط بل نتيجة مباشرة لما تسبب فيه هذا الإنفاق من تدهور في قيمة الدينار الليبي وانعكاسات خطيرة على دخل المواطن وثقة السوق".

ولم يصدر عن مجلس النواب تعقيب أو رد على ما صدر في بيان منصة حكومتنا.

وقال الدبيبة أن "عددًا من الخبراء الاقتصاديين نبهوا إلى أن إقرار ميزانية موازية رغم مخالفتها القانونية من شأنه أن يؤدي مباشرة إلى ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق الموازي".

وأشار أن ذلك "نتيجة اختلال الثقة المالية وزيادة الضغط على الاحتياطيات، الأمر الذي ينعكس سلبًا على استقرار العملة ومستوى معيشة المواطن.

وتُؤكد هذه التحذيرات الواقع المالي الهش في ليبيا، ففي مطلع أبريل الماضي، أصدر البنك المركزي الليبي قرارًا بتخفيض قيمة الدينار الليبي أمام العملات الأجنبية، مبرراً ذلك بـ"تدهور الوضع المالي للدولة نتيجة الإنفاق المزدوج من الحكومتين المتنافستين".

وهذا التخفيض، وتبعات الإنفاق الموازي، لا يُضعف العملة الوطنية فحسب، بل يُهدد بتآكل ما تبقى من احتياطيات البلاد ويُفاقم الأعباء المعيشية على الليبيين، الذين يعانون بالفعل من نقص الخدمات الأساسية وتدهور البنية التحتية.

ويزيد غياب الرد من مجلس النواب على هذه المطالب من حدة التوتر ويُبقي باب التأويلات مفتوحا.

وعلى الرغم من تضافر الجهود الدولية، ووساطات الأمم المتحدة التي لا تتوقف، تظل ليبيا عالقة في دوامة الانقسام، بعيدة كل البعد عن تسوية سياسية حقيقية. واليوم، ومع التلويح بوقف نبضها الاقتصادي (النفط) ورفض طرابلس للتمويلات الموازية، يبدو أن الأزمة الليبية تسدل ستارا على فصل جديد من صراع النفوذ المالي والسياسي، مُنذرة بتفاقم غير مسبوق.

وفي قلب هذا الصراع، يبقى الليبيون هم الضحية الكبرى، مع تعثر الوصول إلى انتخابات وطنية تلم الشمل، وانسداد كل الآفاق أمام توحيد المؤسسات الممزقة، تتحول مقدرات البلاد إلى مجرد أوراق ضغط في يد المتنافسين على السلطة.

هذا المشهد لا يُبقي بصيص أمل لاستقرار حقيقي أو تنمية مستدامة، بل يُعمق اليأس والإحباط في نفوس شعب طال انتظاره للسلام، بينما تدفع شهوة السلطة بالبلاد نحو المزيد من الفوضى والضياع.