محمود سعيد يواجه شخصيات رسمها وملكات تجاهلهن وبحر الإسكندرية

"الليلة الأخيرة في حياة محمود سعيد" سيرة أخرى لأشهر فناني مصر.
الأحد 2025/06/01
رسوم مصرية صرفة

استعادة حياة فنان بارز لا تقل أهمية عن استعادة أعماله، ولكن أن يتخلل السيرة الخيال وتندمج الحقيقة مع المتخيل من قبل الكاتب الروائي فإن ذلك يمنح زوايا أخرى لرؤية الفنان أو الشخصية المستعادة، وهو ما نجح في تحقيقه الكاتب المصري أحمد فضل شبلول وهو يستعيد الفنان المصري الراحل محمود سعيد.

نحن نقرأ أول رواية تربط بين الفن التشكيلي والفن الروائي، لا لأنها تتحدث عن فنان رائد كبير هو محمود سعيد، ولا لأنها تحمل الكثير من الشرح والتحليل للوحات مصرية وعالمية لفنانين عظام، ولا لأنها تشير إلى مجموعة من أهم أعلام التشكيليين في العالم، أو تجمع بين شخصيات لوحات معروفة عالميا وشخصيات روائية تعيش في أعمال أدبية كبرى، بل لأنها تفتح نوافذ ومنافذ بين فن القلم وفن الريشة، مؤكدة تواشج الفنون؛ أداة ووسيلة تعبير عن حساسية الإنسان، وحاجته إلى وسائط متنوعة للتعبير عن كيانه الروحي.

الرواية هي “الليلة الأخيرة في حياة محمود سعيد” للشاعر والكاتب أحمد فضل شبلول. وأظن أن محمود سعيد – الذي ولد قبل قرن ونيف تقريبا – عاش خادما لربة العدالة سنين طويلة من عمره، وعشق الفن حتى خرج من حدود مدينته الإسكندرية، ومن حدود وطنه مصر منطلقا إلى الدنيا كلها، فصار كوكبا من كواكب الفن وعظمائه في العالم المتحضر.

 أظن أن هذا العظيم قيمة، وفنا، وحسا، وفعلا، لا يحتاج منا إلى تعريف. فماذا أضاف أحمد فضل شبلول إلى معرفتنا بقيمة الرجل وفنه، وإلى الرواية وأحكامها؟

سيرة مفترضة

الحقيقة أن شبلول أضاف في روايته ما جعلنا أو جعلني أشعر بتقصيري في فهم الرجل، وقد شاهدت بعض لوحاته التي كانت تزين معارض الفن التشكيلي في الستينات في مصر في عصر ازدهار الاهتمام بالفن التشكيلي ضمن الاهتمام الثقافي العام لفنون الكلمة والصورة والحركة والإيقاع، وعلى صفحات المجلات المهتمة بالفن التشكيلي، والكتب التذكارية التي أصدرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب منذ نحو خمسين سنة عن عظماء الفن التشكيلي في مصر، ومنها كتاب قيّم عن الفنان.

وأيضا تلك اللوحات التي نراها على الشبكة العنكبوتية إذا بحثنا عن الفن التشكيلي في مصر، أو فن التصوير، أو بحثنا تحت اسم محمود سعيد ذاته، لم يعد كل هذا كافيا. فنحن تمتعنا أعماله، ولكن الرواية أمتعتنا بأعماله وبشخصه. تلك الذات الإنسانية رفيعة القدر بالإحساس بالآخر، ورهافة الإحساس بالعالم المحيط والأحوال.

محمود سعيد هو الأرستقراطي الذي انحدر من عائلة مرموقة؛ فوالده محمد سعيد باشا، أحد رؤساء الوزراء في مصر الذي جعلته الظروف قريبا من قصر الحكم، في معية الملك فاروق لكونه خال الملكة فريدة التي غيّر الملك فاروق اسمها من صافي ناز ذو الفقار إلى فريدة ليكون اسمها مبدوءا بحرف الفاء كاسمه واسم بنات عائلته، وأيضا ليكون نطقه سهلا في اللغة العربية وفي اللغات الأجنبية.

الرواية تفتح نوافذ بين فن القلم وفن الريشة، مؤكدة تواشج الفنون أداة ووسيلة تعبير عن حساسية الإنسان

أقول إن هذا الأرستقراطي المرهف لم يجد لريشته موطنا إلا أعماق الشعب المصري الذي تطلق عليه بعض الفئات – من باب التصنيف الطبقي – “قاع المدينة”؛ هم المرهقون الذين أفرزت أجسامهم عرقا غزيرا ليستمروا أحياء.

 وهذا ما دعا ناقدا غربيا لأن يقول عن لوحات محمود سعيد “إذا عرضت لوحاته في أيّ مكان في العالم، على ناس لا يعرفونه، لأدركوا في الحال أنها رسوم مصرية صرفة، حتى الحمار الذي رسمه، حمار مصري تماما، يختلف عن بني جنسه من الحمير كافة، وإن اشترك معهم في الثوابت الجنسية.”

خذ مثلا أكثر لوحات محمود سعيد شعبية “بنات بحري”؛ فأنت ترى رسما لثلاث فتيات يتلفعن الملاءة اللف السوداء التي كانت الزي الرئيسي للمرأة المصرية في أوائل القرن العشرين وما قبله، ماذا يمكن للفنان أن يفعله في مساحة السواد التي تغطي معظم الفتيات داخل اللوحة إلا قليلا؟ وهذا القليل هو مهمة محمود سعيد الفنية؛ ثلاث فتيات من بنات الشعب البسيط، رقيق الحال، ولكن انظر إلى ملامح الوجه الظاهرة من تحت “البيشة” الرقيقة السوداء التي تبدو من خلفها الشفتان والأنف والعينان، وما يحيطهما من كحل يتماس مع رموش واضحة فوقهما حاجبان قوسهما صاعدا إلى أعلى في ابتسامة يحار المرء في تفسيرها تكسو مجمل الوجه من قوس الذقن المثلث الصاعد إلى محيط الوجه حتى يلتقي بمنديل ساحر يرسم دائرة بيضاوية بين ربطة “اليشمك” وتعصيبة منديل الرأس، وقد خرج نافرا متحديا الملاءة والمنديل والبرقع خصلة من شعر رأس الفتاة تعلن في إرادة واثقة أمرا ما مستكينا تضمره كل واحدة منهن في شقاوة شبابية محببة. فواحدة تخاطبك بنظرة صامتة، والثانية تداعب طرف ملاءتها – التي توشك على الانحسار – بطرف أصبعها، فيبدو كامل ذراعها وقد زينته أسورتان، بينما الثالثة ترفع يدها إلى طرف نحرها مسبلة عينيها في رضا واستسلام جميلين، والحلق يتدلى من شحمة أذنيها.

يكمل ثراءَ الصورة عند سعيد شيءٌ من البعد البيئي للحياة الشعبية في مصر حيث يقف في جانب بائع العرقسوس حاملا قدره الزجاجي المثلج المشدود بحزام من الجلد السميك يربط قدر المشروب ببطن البائع في حزم الحزام على ظهر البائع، وفي يده إبريق الماء يغسل به الأكواب بعد الشراب. وفي الجانب حامل مقوس حول جنبه به الأكواب المعدة للزبائن. وفي الجانب المقابل حمار صغير جميل يجلس عليه طفل صغير في حجر أمه، وقد بدت ملامحها أقرب إلى الفرعونية في ملابس صعيدية، بينما تبدو ملامح بائع العرقسوس أقرب إلى ملامح أفريقية.

الكاتب يدخل عالم محمود سعيد الفني ليقدم لنا من خلال لحظات احتضار الفنان صورا حقيقية أو مفترضة
الكاتب يدخل عالم محمود سعيد الفني ليقدم لنا من خلال لحظات احتضار الفنان صورا حقيقية أو مفترضة

هذه اللوحة التي اكتسبت قيمة فنية وشهرة عالمية، استوحاها محمود سعيد من قصيدة للشاعر اللبناني أمين الريحاني يقول فيها: “على شاطئ البحر الأبيض/ رأيتُ نسوة ثلاثا يتطلعن إلى المشرق:/ الشمس كالجُلَّنار/ تنبثق من ثلج يُكلِّل الجبل/ امرأة في ثوب أسود/ تجلَّت بفمها الباسم/ امرأة في جلباب أبيض/ نطق الحنان في عينها الدامعة/ امرأة ترفل بالأرجوان/ في صدرها للشهوات نارٌ تتأجَّح.”

وهذا التأثر لا يعني أن اللوحة ترجمة للقصيدة، فالفن يغذي الفن بما يوحيه من أحاسيس تتخلق في وعيه حتى تتحول إلى مُعطى فني: قصيدة، قصة، لوحة، أو حتى كلمة.

هكذا كانت رحلة شبلول بين الصورة والكلمة، رؤية جديدة في إبداعه الفني بالكلمة، شعرا كانت أو نثرا.

 أما كيف دخل صاحبنا إلى عالم محمود سعيد الفني ليقدم لنا من خلال لحظات احتضار الفنان صورة حقيقية أو مفترضة، فجاءت بما يشبه التهكم من الموت أو الوقوف بشجاعة للحظة الأخيرة. هو لا ينظر إلى الأمر كله بمأساوية الإنسان العادي، بل يأخذه بروح الفنان الفكهة. يكفي أنه يحوِّل اسم ملك الموت إلى اسم مقبول بشريا يوحي بالفرح، فيسميه “مَبْهَج”، وهي مشتقة من فعل “بَهَجَ” ما يوحي بالبهجة حتى يكون التعامل معه مريحا للطرفين.

يطلب الفنان من “مَبْهَج” أن يعطيه الفرصة ليزور مرسمه، ويودّع لوحاته وأيامه وذكرياته، وفي الوقت ذاته يعطي “مبهج” الفرصة للاطلاع على أحوال نوع من البشر، هم أولئك الذين يحاولون بريشتهم وألوانهم محاكاة ما أفاء الله عليهم من معجزات الخلق والجمال في البر والبحر والفضاء والسماء من مخلوقات الله.

ومن تلك اللحظة ندخل مع المؤلف في سيرة حياة ذلك الفنان الذي حاز صيتا في البلاد وخارجها، وصار اسما من أولئك الذين تُعلَّق لوحاتهم في أهم متاحف العالم.

ويتطلب الإبداع الفني أن تكون سيرة محمود سعيد التي وضعها أحمد فضل شبلول في روايته “مفترضة” ليكون للعمل الروائي وصنعته قيمة فنية أعلى من مجرد سرد تاريخ إنساني “مهما كان عظيما” في فنه.

اللوحات والنهاية

لقد بذل المؤلف جهدا ذاتيا، وجهدا تاريخيا، وجهدا بحثيا، ليجعل من حصيلة ما جمعه عملا أدبيا جميلا. فكيف أخرج من اللوحة تلك “الموديل” التي رسمها الفنان في لوحته، وأعاد إليها كينونتها البشرية، تحيا وتحس وتحلم وتخطئ وتتعذب.

 خذ مثلا لوحة “بنات بحري” لتعرف أن الفتيات في اللوحة هن: “حلاوتهم”، و”ست الحسن” أو “توحيدة”، و”جميلة”، وعلى الرغم من المتعة الحقيقية التي كانت ومازالت تنعش كل من يرى اللوحة، فإن مصير البطلات كان أغرب مصير خارج اللوحة، قُتلت حلاوتهم بيد زوجها “السنجاري”، ولك أن تتخيل سبب قتل زوجة جميلة متزوجة من رجل غيور يرغب في السيطرة لا على جسدها، بل على أحلامها وطموحها.

 وأما “ست الحسن” فانسحبت إلى جذورها في الصعيد في بيات شتوي مؤقت لتعيد ترتيب حياتها، وتتهيأ لدور جديد تود أن تلعبه في المستقبل؛ في السينما، وعند عودتها تلتقي الصحافي رؤوف علوان الذي يعدها بالمساعدة بتقديمها إلى أصدقائه المخرجين، ويسحبنا اسمه إلى رؤوف علوان آخر قدمه نجيب محفوظ في روايته “اللص والكلاب” مثالا للانتهازي الكاذب الذي يجعل الغاية تبرر الوسيلة، ولا يعنيه أن يتردى تلاميذ أفكاره في مهاوي البؤس. ومع أن الفنان يحاول تبصير موديله القديمة بخطورة الشخصية التي التفت حوله، تجيبه في ثقة مبالغ فيها “أنا لست سهلة.”

o

أما “جميلة” فخرجت من مصر بعد العدوان الثلاثي عام 1956 وهاجرت إلى فلسطين لتحيا في وطن مغتصب. هذه لحظة يعيشها محمود سعيد وينقلها المؤلف، لحظة كالحلم لا تستغرق وقتا طويلا لأن وقت الأحلام مشفّر شديد الكثافة.

وأثناء استعراض اللوحات في مرسمه يتساءل مبهج في ما يشبه الاحتجاج: ألا يوجد سوى البنات والسيدات؟ فيخبره الفنان أنه – أيضا – لديه لوحات عن الطبيعة، وأخرى عن المقابر وحلقات الذكر، فيختار “مبهج” من اللوحات ما يناسب وظيفته، لوحات المقابر. ولكن الفنان يشعر بأنه يستدرجه نحو حتفه، فيؤكد له أنه لا يزال لديه وقت في الحياة، فيطمئن ويطلعه على لوحات المقابر التاريخية “قبور باكوس”.

 وفي حركة التفاف سريعة يدعو الفنان مرافقه لمشاهدة لوحة “في المرقص”، وهي لوحة حياة بعيدا عن أجواء القبور والموت.

وتتداعى العلاقة بين الفنان وضيفه مبهج، فلكل منهما وظيفته: الفنان يحتفي بالحياة، ومبهج مهمته إنهاء الحياة. ولكنه يشعر بامتعاض حين يشاهد لوحات عالمية لدافنشي تترجم وقائع ما ورد في “العهد القديم” عن الخلق، وفي “العهد الجديد” عن قصص صلب السيد المسيح.

 تختلف نظرة مبهج عن فعل دافنشي، فهو يستنكر توظيفها في لوحة، والفنان يرى أنها خيال بشري، ومن حقه أن يجتهد وينقل تصوره لوقائع مروية حدثت في أعماق السنين، ويحتاج الإنسان إلى التعبير عمّا يحسه نحوها.

يكتشف مبهج حيلة الفنان للبقاء حيّا بأعماله الخالدة ورغبة المحبين لفنه في التمسك بوجوده لإمتاعهم، وهو أمر يتعارض مع الناموس الكوني، والمهمة التي وجد مبهج من أجلها. يسأل الفنان مهلة حتى يتم مشروع متحفه الفني، وحينما يعرف مبهج أن مهمته تستغرق سنوات، يؤكد أن المهلة محددة بدقائق. التوقيت دقيق يا فنان، ولكنني أستطيع أن أساعدك بتنفيذ مشروعك الذي تريده في سنوات، أن أجعلك تتمه في لحظات.. كيف؟ هذه مهمة مبهج. القدرة على التكثيف كما يفعل الحلم، ثوان لكنك تستعيدها في دقائق أكثر.

الماضي يطارده

Thumbnail

في خضم الأحداث المتلاحقة على محمود سعيد تفاجئه محاكمة تاريخية من ملكات مصر اللائي أهملهن الفنان في لوحاته، فلم يحيي ذكرهن في فنه، كما كان يجب على رجل جعل ريشته تنحاز إلى وطنه الكبير مصر. من أعماق الماء الأزرق تشق ملكات مصر العباب، وتفاجئنه بحساب عسير.

كليوباترا “أنا كنت راعية الفنون والثقافة في الشرق كله أثناء سنوات حكمي، وكانت التماثيل والجداريات هي الأكثر انتشارا في عصري، غير أني لا أحب تلك الصورة التي أمر أوكتافيوس برسمها لي مع اثنين من الثعابين وسار بها في موكب نصره في روما عام 29 قبل الميلاد، لذا أدعوك بشدة، وألح في ذلك، أن ترسمني في لوحة شاهقة، كما تراني الآن. لا أريد تمثالا جديدا، ولكنني أريد لوحة ملونة بريشة أحد عباقرة الرسم والتلوين في مدينتي الحبيبة الإسكندرية.”

أما شجر الدر فقالت له “أنا سلطانة مصر.. المرأة الوحيدة التي حكمتها طوال عصورها الإسلامية، وتوليت منصب القائد الأعلى الرسمي للجيش، وحافظت على البلاد من التفكك والاضطرابات، وقضيت تماما على الحملة الصليبية السابقة بقيادة لويس التاسع عشر ملك فرنسا، لم تفكر في رسمي وترويج صورتي وتحسينها لدى أبناء مصر.”

فجأة شعَّت أنوار مبهرة في البحر، خرجت منها مجموعة نساء بملابس غريبة لم يألفها من قبل، يتقدمن في شموخ وكبرياء وثقة وعزة نفس “أنا الملكة مريت – نيت أول سيدة حكمت مصر وفي تاريخ البشرية،” وطلبت من الفنان أن يرسمها رفقة هؤلاء الملكات في لوحة شاهقة واحدة، أو يرسم كل ملكة في لوحة بمفردها، وحينما يدهش أن يكون فنه معروفا لدى ملكات عشن قبل آلاف السنين يصدمنه بإجابة قاطعة “نحن نقرأ كل عمل جاد يقدمه كتَّاب مصر، والكاتب في مصر القديمة كان له وضع عظيم ومقدَّر في كل أجهزة الدولة.” وحينما يقول – نقلا عن نجيب محفوظ في “أولاد حارتنا” – “آفة حارتنا النسيان” تجيبه الملكات “نحن لم ننقطع عن متابعة ما يجري في مصر طوال عصورها، ونسعد كثيرا في عالمنا الآخر باستقرارها وأمنها ورخاء شعبها، ونشقى أكثر عندما نسمع عن الحروب والفساد والفوضى والجهل والمرض والفقر الذي يصيب البلاد في بعض العهود.”

كان الاحتفال الملكي يضم الكثير من الملكات اللاتي طويت صفحات تاريخهن، ويطلبن اليوم من الفن أن يعيد إليهن بريق الحياة بالتذكر، فربما استفادت شعوبهن من أدوارهن التاريخية: الملكة خنتكاوس ابنة الملك منكاورع، الملكة نيت – إقرت المعروفة باسم بنتوكريس ابنة الملك بيبي الثاني، الملكة نفروسوبك ابنة الملك أمنمحات الثالث، الملكة حتشبسوت، والملكة نفرتيتي، والملكة برنيكي .. حشد من الملكات اللاتي حكمن عبر عصور مصر التاريخية خرجن من التاريخ لينقلن كلمة للحاضر.

ماذا يفعل الفنان وقد طاردته ديون ماض لا يد له فيه، وأحزان حاضر حاول أن يسمو عليه. ما زال يذكر صافي ناز ذوالفقار أو “الملكة فريدة” .. عاشت ملكة وانتهى ما بينها وبين الملك فاروق بالطلاق، فكانت مهمة “الخال” ترميم جراح ابنة أخته بدفعها بقوة إلى الفن، القراءة، الرسم، الموسيقى. بدأ ينفخ في موهبتها التي خبت بالزواج الملكي ليعيد إليها وهج الفنان، ويستعيد معها ذكريات طفولتها حتى تتطهر من أحزان الطلاق وتعيش حياتها الجديدة في سكينة.

لم تكن إسكندرية محمود سعيد، إسكندرية المهاجرين من قارات العالم ليعيشوا فيها آمنين، كما عرفت بأنها مدينة كوزموبوليتانية، ولكنها كانت إسكندرية رجال جعلوا من بحرها صورا في لوحات.. سيف وأدهم وانلي من حول بحر قزوين من أسرة كانت تحكم داغستان، واستوطنا الإسكندرية وصنعا فيها فنا غزا متاحف العالم، وتتلمذا على فنان إيطالي عاش أيضا في الإسكندرية هو أوتورينو بيكي، وظلا يدرسان لمدة أربع سنوات. بل إن المؤلف يذكر لمبهج، العلاقة بين الفن والحياة الروحية، فالكثير من الفنانين تخرجوا من الأزهر، أو أثرت عنهم تلاوة القرآن وتجويده، منهم الشيخ محمد عبدالرحيم المسلوب، والشيخ سلامة حجازي، والشيخ محمد عثمان، والشيخ أبوالعلا محمد، والشيخ يوسف المنيلاوي، والشيخ سيد الصفتي، والشيخ سيد درويش، والشيخ زكريا أحمد، والشيخ سيد مكاوي، ومحمد القصبجي، ودرويش الحريري..

لكن.. هل يمكّن مبهج الفنان من رسم ملكات مصر والبشرية في لوحة يراها حديث البشرية في أزمانها القادمة؟ ما يراه أن مبهج وأعوانه يلقون الكلس الأبيض على وجهه فتختفي الملكات ليرى دنيا غير الدنيا، وبحرا غير البحر، ونورا غير النور.

10