القمح في صلب القبضة الحديدية بين الجزائر وفرنسا

أغلقت الجزائر الباب أمام استيراد القمح الفرنسي بشكل كامل، مما ألغى فعليا سوقا إستراتيجية تبلغ قيمتها 9 ملايين طن سنويا مع باريس، ما يعتبر ضربة قوية لجزء كبير من الصادرات الزراعية الفرنسية، في وقت تشهد فيه العلاقات بين البلدين توترا دبلوماسيا متصاعدا.
الجزائر - أعرب فاعلون في القطاع الزراعي الفرنسي، عن مخاوفهم من غلق السوق الجزائرية أمام القمح الفرنسي، بسبب الأزمة السياسية المتفاقمة بين البلدين منذ قرابة العام، الأمر الذي يؤكد قرارا جزائريا غير معلن بإقصاء الموردين والمنتجين الفرنسيين من المناقصات التموينية، وهو ما يضع المادة الحيوية للمنتجين أو المستهلكين، في دائرة أوراق الضغط المتاحة التي تلوح بها الجزائر لثني باريس عن مواقفها.
وكشف المدير العام لاتحاد “سيرافيا” الفرنسي، (وهو تنظيم مهني يضم أربعة تعاونيات آلان كاكيرت)، بأن الجزائر لم تعد تشتري القمح الفرنسي، وأن المنتجين المحليين لم يحصلوا على أي طلب شراء، مما يعني غلقا غير معلن من طرف السلطات الجزائرية، للسوق المحلية أمام المنتوج الفرنسي، وهو ما يشكل ضربة قاصمة، قياسا بكميات التوريد التي كانت تصل أحيانا إلى تسعة ملايين طن سنويا.
ويبدو أن التوتر السياسي المحتدم بين البلدين منذ شهر يوليو الماضي، ألقى بظلاله على الوتيرة الاقتصادية والتجارية الثنائية، التي سجلت تراجعا وصل إلى 25 في المئة خلال الأشهر الأخيرة، ويأتي القمح على رأس الواردات الجزائرية من فرنسا.
ويرى متابعون للملف، بأن خسارة فرنسا للسوق الجزائرية في مجال القمح، ستشكل منعطفا مستجدا في خارطة التجارة الحيوية، فالجزائر التي تعد ثاني أكبر مستورد لقمح الطحين في العالم بعد مصر، وتصل حاجياتها في بعض المواسم إلى 12 مليون طن، تمثل سوقا مغرية ظلت لعقود محل احتكار فرنسي، قبل أن تغير وجهتها إلى أسواق البحر الأسود، وذلك بسبب الأزمة السياسية القائمة بين البلدين، ودخول المبادلات التجارية والاقتصادية ضمن أوراق الضغط في تصفية الحسابات المتراكمة.
وصرح آلان كاكيرت، لصحيفة “لو بيان بيبليك”، بأن “الجزائر لم تعد تشتري القمح الفرنسي بأي كمية، مما أثار ارتباكا في الأوساط الزراعية الفرنسية، وأن الجزائر كانت شريكا مفضلا لصناعة القمح الفرنسية، خاصة في منطقة بورغوني، إلا أن هذه السوق أغلقت بالكامل اليوم.” وجاء هذا التصريح، ليعزز مخاوف سابقة عبر عنها كل من رئيس المجلس الفرنسي للمحاصيل الكبرى فرانس أغري مار، مطلع العام الجاري، لما قال إن، “الجزائر أغلقت بشكل شبه كامل باب استيراد القمح من فرنسا بسبب توتر العلاقات الدبلوماسية.”
◙ متابعون يرون أن خسارة فرنسا للسوق الجزائرية في مجال القمح، ستشكل منعطفا مستجدا في خارطة التجارة الحيوية
كما حذر أمين عام الجمعية الفرنسية لمنتجي القمح فيليب هيوزيل، من “خطر فقدان فرنسا لحصتها في مبيعات القمح في الأسواق الخارجية، خاصة في شمال أفريقيا والصين،” الأمر الذي يزيد من حدة الضغوط الضغط على المزارعين الفرنسيين، في ظل تراجع الطلب الصيني وتدفق القمح الأوكراني إلى أوروبا.
ويأتي القلق الفرنسي، في خضم بيانات كشفت عنها الجمارك الفرنسية حول المبادلات التجارية بين الجزائر وفرنسا، أبانت عن تراجع ملحوظ خلال الربع الأول من العام الجاري، وقدرته بين 18 و25 في المئة، مقارنة مع العام الماضي، حيث سجل الرقم نزولا من مليار و250 مليون يورو، إلى حوالي 990 مليون يورو.
وأبدى خبير اقتصادي فرنسي في تصريح لصحيفة “لوفيغارو”، تشاؤما حول الوضعية الراهنة، وقال: “علينا انتظار إحصاءات النصف الأول من العام حتى تتأكد النزعة التراجعية، وأن التراجع إذا تجاوز نسبة الـ15 في المئة، يعتبر أمرا مقلقا وهو تراجع كبير، لكنه متوقع بالنظر إلى تأثير الأزمة الدبلوماسية.
وذكر رئيس غرفة التجارة والصناعة الجزائرية-الفرنسية ميشيل بيساك: “أنا متفاجئ نوعا ما من هذا التراجع، الذي أراه محدودا نسبيا، لكن يجب أن نتذكر التوقف المفاجئ للعلاقات الاقتصادية مع إسبانيا قبل أكثر من عامين لأسباب مشابهة. أنا مقتنع بأنه لا توجد نية حقيقية للقطيعة، بل مجرد تحذير حتى الآن دون تكلفة كبيرة.”
وناهز التبادل التجاري بين الجزائر وفرنسا خلال العام الماضي سقف الـ12 مليار دولار، حيث تلعب العديد من الأوراق دورا إيجابيا في تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين، على غرار المسافة والشحن والمعرفة المسبقة بين المستهلك والمنتج، غير أن التوترات السياسية التي تقارب مدة العام، تلقي بظلالها على النشاط المذكور، مما يحمل الاقتصاد الفرنسي كلفة اقتصادية مؤثرة.
وكان الديوان الجزائري للحبوب، قد أعلن منذ عدة أشهر، عن إدراج معايير جديدة في صفقات التموين بالحبوب، ونفى أن يكون قد أقصى الموردين أو المنتجين الفرنسيين من مناقصاته، غير أن فاعلين في القطاع الزراعي الفرنسي، أكدوا على أن “المعايير هي إبعاد غير معلن للقمح الفرنسي من الجزائر.”
وأكد الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، في تصريحات لوسائل إعلام محلية، على “ضرورة رفع إنتاج القمح المحلي إلى ضعفين لتقليل الاعتماد على الاستيراد، وزيادة إنتاجية الهكتار الواحد إلى نحو 35 قنطار بدل 20 قنطار، فضلا عن الوصول إلى الاكتفاء الذاتي في مجال انتاج القمح الصلب.”
وهذا التوجه نحو تنويع مصادر الاستيراد وتقليل الاعتماد على طرف واحد، خاصة في ظل الأزمة الدبلوماسية مع فرنسا، يعكس رغبة الجزائر في تعزيز أمنها الغذائي واستقلالها الاقتصادي. ومع ذلك، يخشى خبراء زراعيون في فرنسا من اتساع الخسائر، ليس فقط بفقدان السوق الجزائرية، ولكن أيضا في ظل انخفاض الطلب الصيني وتنامي تدفق القمح الأوكراني إلى الأسواق الأوروبية، مما يزيد الضغط على المزارعين الفرنسيين.