أكراد العراق وهم يبنون نموذج دولة حديثة

ما من أحد زار أربيل عبر العشرين سنة الماضية إلا وصدم بما رآه من مشاهد مدينية لا تذكّر بالعراق الذي لا يزال على الرغم من تدفق الثروات يعاني من مشكلات جوهرية
الأربعاء 2025/05/28
أربيل نموذج يمكن أن تتعلم منه بغداد

على الرغم من أن مسيرة الإقليم الكردي في العراق بعد استقلاله النسبي سياسيا لم تكن يسيرة في ظل الاضطراب الذي عاشه العراق منذ عام 2003 غير أن زعماءه نجحوا في صنع نموذج مختلف للدولة على الأقل على مستوى تثبيت الأمن والاستقرار. كما أن الازدهار الاقتصادي كان ملموسا في ما شهده الإقليم من انتعاش عمراني، كان في وجه من وجوهه مرآة لبرنامج تنمية طويل الأمد في ظل تدفق الاستثمارات الأجنبية.

ما من أحد زار أربيل عبر العشرين سنة الماضية إلا وصُدم بما رآه من مشاهد مدينية لا تُذكّر بالعراق الذي لا يزال على الرغم من تدفق الثروات عليه يعاني من مشكلات جوهرية لا في البنية التحتية التي لا تزال منهارة فحسب، بل وقبلها أيضا مشكلات سياسية عميقة الجذور يهدد استمرارها بقاء النظام، وتشكّل تبعية الأحزاب الحاكمة للنظام الإيراني المشكلة الأكثر خطورة في ظل نفوذ الميليشيات الذي صار جزءا لا يخفى من بنية النظام السياسي في العراق.

وإذا ما شئنا المقارنة فإن الأكراد الذين استندوا في استقلال إقليمهم من عام 1991 على الحماية الأميركية استطاعوا بعد عام 2003 أن يطوروا مفهوم ذلك الاستقلال ليصلوا إلى مرحلة البناء الذاتي بحيث صار زعماؤهم يتصرفون بعقل رجل الدولة المسؤول لا عن الحاضر وحده بل عن المستقبل أيضا. وهو ما لم يكن زعماء الأحزاب الحاكمة في بغداد مؤهلين للقيام به لأسباب عقائدية، ذلك لأن المذهب لديهم أهم من الوطن وهو ما يشير إلى ضعف الوازع الوطني لديهم. كما أن بناء دولة جديدة على حطام العراق التاريخي لم يشكّل هاجسا لدى أحزاب لم تكن في منطلقاتها النظرية تؤمن بالدولة بقدر ما تؤمن بهدم الدولة بعكس الأحزاب الكردية التي لا معنى لوجودها لولا أنها قد اتخذت من قيام وطن قومي للأكراد مبدأ لها.

◄ كان من الأولى على بغداد أن تتعلم من أربيل درس الوطنية لولا أن حكامها لم يكونوا مستعدين أصلا للقبول بذلك الخيار بسبب طائفيتهم الغاطسة في المستنقع الإيراني التي ضيعت عليهم فرصة بناء دولة حديثة

استفاد الأكراد من غياب النظام السياسي السابق في بناء نموذجهم لدولة حديثة حظيت تجربتها باهتمام العالم كله، بحيث صار زعماء الإقليم يُستقبلون في كل مكان بترحاب وتقدير، وفي المقابل فإن مفهوم “العراق الجديد” ظل غامضا في ظل تعثر العملية السياسية وخلط الأوراق بين ما هو مذهبي وسياسي وفشل الحكومات المتتالية في طرح برامج تنموية تنتشل العراقيين من فقرهم وتبدأ في ترميم البنية التحتية المنهارة وتفتح الطريق أمام العراق للعودة إلى محيطه الإقليمي باعتباره دولة ذات سيادة. بمعنى أن العراق كان ولا يزال يدور في دائرة القرار الإيراني.

حاولت إيران مرارا أن تتدخل في شؤون الإقليم الكردي لا لشيء إلا لأنها تشعر أن تطوّره يفضح كذبتها في بناء نموذجها العقائدي في عراق لم يعد وجوده يثير اهتمام أحد. فإضافة إلى تدخلها في الشأن السياسي مستغلة الخلافات بين الأطراف الكردية فإنها لجأت مرارا إلى قصف أراضي الإقليم بحجج واهية تتماشى مع ادعاءات ومزاعم النظام الإيراني في حربه ضد إسرائيل وأميركا. وهي الحرب التي أراد لها أن تكون دائما غير مباشرة.

لم تثن تدخلات إيران سياسيي الأكراد عن الاستمرار في مشروعهم في بناء دولة حديثة تستحق أن يلتفت لها العالم ويسعى إلى أن يحيطها بالتقدير. كل ذلك لم يشكل بالنسبة إلى حكام بغداد عامل تحدّ لكي يكونوا أفضل ممّا هم عليه ليقفوا على الأقل بمستوى حكام الإقليم العراقي هو الآخر أمام العالم. بل عملوا دائما على اختراع كل ما يمكن أن يشكل عثرة في طريق الإقليم الذي صار يواجه صعوبات كثيرة في أن ينال حصته من ثروات العراق التي هي حقه الذي ضمنه الدستور. وما لم تنتبه له الحكومات المتعاقبة في بغداد أن النمو العمراني الذي شهده شمال العراق منذ السنوات الأولى التي تلت عام 2003 وهو واحدة من علامات الازدهار الاقتصادي كان ثمرة تخطيط ذكي لجذب الاستثمارات الأجنبية في الوقت الذي كانت فيه موارد العراق المالية تُهدر إما من خلال تهريبها إلى إيران أو في صفقات فساد، وصنع زعماء الأحزاب من خلالها إمبراطورياتهم المالية.

كان من الأولى على بغداد أن تتعلم من أربيل درس الوطنية لولا أن حكامها لم يكونوا مستعدين أصلا للقبول بذلك الخيار بسبب طائفيتهم الغاطسة في المستنقع الإيراني التي ضيعت عليهم فرصة بناء دولة حديثة بعد كل الزمن الذي ضاع من عمر العراق المعاصر وهو يخرج من حرب ليدخل أخرى.

9