"الإنسان الفيلسوف" يكتشف الفلسفة من أسئلة الأطفال وتأملات البسطاء

عمان- لطالما ارتبطت الفلسفة في وعينا الجمعي بصورة المفكر المتبحر بالعلم، أو الأستاذ الجامعي، أو صاحب النظريات المعقدة، مما جعل الكثيرين يرون أن الفلسفة حالة خاصة لا يعنيهم الاقتراب منها، أو أنها نشاط نخبوي لا يرتبط بالحياة اليومية التي يمارسها العامة. لكن في كتابه “الإنسان الفيلسوف: عن أسئلة الأطفال وإجابات الحكماء”، يفند معاذ بني عامر ذلك ويؤكد أن هذا التصور غير دقيق.
ويرى بني عامر أن فعل “التفلسف” ليس حكرا على المختصين، بل يمكن لأي إنسان كان، بصرف النظر عن مهنته أو خلفيته المعرفية، أن ينهض به، ولهذا فهو يقول في مفتتح الكتاب “نكتمل بالنقص، تلك واحدة من مقتضيات وجودنا في هذا العالم، وتلك أيضا واحدة من المقتضيات الأساسية التي يقوم عليها معمار كتابي”.
ينقسم الكتاب، الصادر عن “الآن ناشرون وموزعون” (2025)، إلى تمهيد يتضمن الأسباب التي دفعت الكاتب إلى كتابة كل فصل من الفصول على حدة، وصولا إلى الرؤية المعرفية التي أبقاها قائمة؛ وهي بالنسبة إلى نص الكتاب قبوله للتطوير والتعديل، وبالنسبة إلى تخارجات هذا النص الواقع المعيش. وثانيا مقدمة موسومة بـ”في مديح التفلسف”، وضح فيها الفرق بين الفلسفة والتفلسف، أو الرؤية التي استند إليها في تأطير مشروع الإنسان الفيلسوف على المستوى الذهني، قبل أن يتجلى نسقا فاعلا في الواقع العملي.
واستند الكتاب على أربعة فصول غطت موضوعات الإنسان الشغوف والراغب بالتفلسف، وذلك بوضع مخطط أو خارطة يسترشد بها إذا ما أراد أن يتفلسف في الحياة، على المستويين العقلي والواقعي، حتى وإن لم يكن دارسا للفلسفة. حمل الفصل الأول عنوان “الطفل بما هو أقل من فيلسوف”، وفيه يؤكد بني عامر أنه “مدين في بلورة سياقاته إلى الطفلة حلا ربيع ربيع؛ ففي العام 2013 عندما كان عمر حلا لا يتجاوز أربع سنوات. كنت أستمع إلى أسئلتها بشغف كبير، فقد كانت – أعني تلك الأسئلة – على قدر كبير من النباهة والذكاء والتبصر العميق، وبقدر نباهتها وذكائها كانت مضحكة أيضا وباعثة إلى الفرح. فكيف لطفلة صغيرة أن تطرح أسئلة شائكة وشائقة حول الإله والدين والعلاقات الناظمة للمجتمع بهذا الحجم الكبير”.
أما الفصل الذي جاء بعنوان “الإنسان المتفلسف”، فيقول بني عامر إنه مدين في بلورة سياقات هذا الفصل إلى جملة من المقالات التي كتبها على مدار سنوات، ومن أبرزها “مراتب الدهشة الإنسانية”، و”قلوب الأطفال وعقول الفلاسفة”، و”قسوة الشاعر ونعومة الفيلسوف”، و”المرأة والصوفي والفيلسوف: عن الجسد المنهك والعقل المنتهك”، مؤكدا أن الإمكان الذي ينطوي عليه الطفل في أن يكون متفلسفا في المستقبل يمكن تعميمه ليشمل كل الناس.
وتعود جذور بلورة الباحث بني عامر لسياقات الفصل الثالث الذي جاء بعنوان “الفيلسوف” إلى كتابه “التفلسف الحضاري: إعادة إنتاج العالم” الذي اشتغل على أطروحته منذ سنوات وما زال هذا الاشتغال قائما حتى اللحظة، كما يوضح الباحث، نظرا إلى الجهد الكبير المطلوب لإنجازه. فهو كتاب يقرأ دور الفيلسوف في العالم: كيف يولد وكيف يموت، وبين ولادته وموته أي دور يضطلع به على المستوى الحضاري؟
ويؤكد المؤلف أنه استقى مبحثه “الحكيم بما هو أكثر من فيلسوف” من شخصيتين متباعدتين، يقول بني عامر أنا “مدين في بلورة سياقات هذا المبحث إلى خالي إبراهيم الموسى، وكبير الرهبان البوذيين في اليابان شونميو ماسونو، صاحب كتاب ‘فن الحياة البسيطة'”، مضيفا “عندما قرأت كتاب ‘فن الحياة البسيطة’ تذكرت خالي إبراهيم الذي كان يراقب – بصبر نافذ ولزمن طويل – حماره وهو يأكل الأعشاب في أراضي قرية إرحابا لكي يتعرف، عبر عمليات المراقبة تلك، على أنواع الأعشاب التي يفضلها حماره، بحيث يأخذه دائما إلى الأراضي التي توجد بها تلك الأعشاب أكثر من غيرها، فيسعد حماره وهو يحصل على مراده من العشب اللذيذ.”
ويوضح في هذا السياق أن الشذرات الصغيرة في كتاب “فن الحياة البسيطة” هي خلاصات معرفية لتجربة كبيرة في الحياة، على المستويين الذهني والواقعي؛ تبادل للأدوار بين المقولات الكبرى كما استقرت في الأذهان والتفاصيل الصغرى كما تجلت في الأعيان، وهذا يجعل من مشروع التفلسف هذا شاملا الإنسان على الإطلاق، شريطة أن يكون تفلسفه منسجما مع القيم الإنسانية العليا: الحق والخير والجمال. وفي خاتمة الكتاب لخص الباحث أبرز معالم مشروع الإنسان المتفلسف، كما أقرها عبر فصول الكتاب، والأهمية الكبرى التي ينطوي عليها المشروع كاملا، للإنسان والحضارة معا.
يعيد معاذ بني عامر في هذا الكتاب تعريف التفلسف، ويقدمه بوصفه ممارسة حياتية شاملة، يستطيع كل فرد أن يشارك فيها، بشرط أن ينطلق من منظومة قيمية عليا، وهو بذلك يعيد الاعتبار للفلسفة بوصفها فعلا إنسانيا أصيلا لا مجرد حقل معرفي نخبوي، وهذا الطرح يقترب من روح الفلسفة في بداياتها الإغريقية، حين كانت تنبع من التساؤل الوجودي حول الكون والعدالة والحياة والموت، قبل أن تتحول إلى تخصص علمي أكاديمي.
هذا الكتاب لا يجيب فقط عن سؤال: هل يمكن للإنسان أن يتفلسف؟ بل أيضا يفتح الباب واسعا أمام كل إنسان ليمارس التفلسف بوصفه طريقا للحرية، وسلما نحو الوعي، وجسرا نحو القيم الكبرى كالخير والجمال والحق، والتي هي المعنى الجوهري للحياة.