فاطمة محسن: الشاعر ليس ساعي بريد ولا واعظا

مسقط - الشاعرة البحرينية فاطمة محسن من الأصوات الأدبية المتميزة في الساحة الثقافية البحرينية والعربية، برزت بصفتها صوتا أنثويا يحمل شفافية الإحساس ورهافة الكلمة، تكتب بلغة تُشبه الهمس، هي شاعرةٌ تُراهن على الكلمة الصادقة، وتؤمن بأن القصيدة الحقيقية لا تحتاج إلى ضجيج كي تُسمع، بل يكفي أن تُقال بصوت القلب.
وبين ما كتبته وما لم تكتبه بعد، تظل قصيدتها مفتوحة على الاحتمال والدهشة، وفي ديوانيها “أسقط منك واقفة” و”أخبئه كي لا ينبض”، تكشف عن تجربة شعرية ناضجة تتميز بالشفافية والعاطفة الصادقة، وتقدم مشاعرها بأسلوب ناعم ومؤثر.
تقول فاطمة محسن إن ما جذبها للشعر إحساس ساحر، يجعل من اللغة طاقة روحية تحملك إلى عوالم واسعة من الحرية، كما ترى الشعر مساحة جميلة للتنفيس عن الذات وطرح الأسئلة المجنونة، إضافة إلى الموسيقى والإيقاع الذي يوقظ بداخلها شيئا لا تقدر الفنون الأخرى على إيقاظه.
والشاعرة قارئة نهمة للروايات، تعيش في العوالم السردية كما لو كانت أوطانا لها، لكن الشعر بالنسبة إليها يأتي دون استئذان كحلم جميل يستقر في روحها، حيث ترى أن الشعر ليس اختيارا واعيا فقط، بل هو انجذاب غريزي غذّته البيئة القروية التي عاشت فيها، فهي تجاور النخل والبحر فأصابتها زرقته بالسحر، وملأتها الدنيا خضارا اسمه القصيدة.
الدور الحقيقي الذي يجب أن يؤديه الشاعر في مجتمعه هو الكتابة لتعزيز الحس الإنساني وسط الفوضى والضجيج
وتؤكد أن كل شاعر قرأت له كان يدا ترفعها لعالم القصيدة، ودرسا منفردا في الكتابة، تعلمت منهم الكثير بدءا من المتنبي، سيد الطموح الذي لا يقنع بما دون النجوم، إلى نزار قباني، الذي رافقها في مراهقتها وشبابها حسب وصفها، فتعلمت منهم أن الشعر جرأة وعمق، جمال وحرية، ومحمود درويش الذي علّمها أن الشعر ليس لغة باذخة وحسب، بل موقف من الحياة والعالم نسطّره بفيض من إنسانيتنا ونحوّل القصيدة منه إلى وطن، وبدر شاكر السياب بغموضه وعمقه.
ومن بين الشعراء الذين تأثرت بهم، تقول إنها غرقت في إبداعات لا حصر لها للشاعر يوسف حسن، وقاسم حداد، والدكتور علوي الهاشمي، وأمين صالح رغم أنه يكتب الرواية لكن رواياته تقطر شعرا، تأثرت بكل من جعلها تقرأ نصّه أكثر من مرة، لا لأنها لم تفهمه، بل لأنها أحسّت بأنه قالها.
وفي حديثها عن ديوانها “أسقط منك واقفة” وهو انطلاقتها الأولى، تقول إنه أشبه بصرخة داخلية، كتبت فيه الألم والحب والخسارات كما شعرت بها، نثرت فيه الكثير من الأسئلة دون انتظار لأي إجابة، فالنصوص التي جاءت فيه ليست محاولة لإقناع أو فرصة لإيصال رسالة، فالشاعر ليس ساعي بريد ولا واعظا يحمل خطابا أخلاقيا، إنه يطرق باب الأسئلة ويتركه مواربا مع فسحة كبيرة للتأمل، في إشارة إلى أن الشعر لا يفرض على الشاعر شيئا، هو فقط يمسك بيده ليأخذه إلى ما يريد، يمسح على قلبه، يطرح أسئلته، يطبطب على روحه، ويجعله يلمس الأشياء التي لا تُلمس، كالحب والصدق والخديعة، إنه يدل على الجمال، يرتقي بالإنسانية، فلا تحتاج بعده إلى وعظ ولا رسائل.
أما عن ديوان “أخبئه كي لا ينبض”، فتقول إن ما يميز هذا العمل هو كونه تجربة تفاعلية مع الفن البصري، فالنصوص بُنيت على لوحات الفنان حامد البوسطة، فحسب قولها، “لم أكن أكتب وحسب، بل كنت أتحاور مع اللون والخط والمساحة، فكانت تجربة جمالية ومغامرة مختلفة في عالم الكتابة الشعرية، كيف تقرأ اللوحة، كيف تحوّل اللون إلى حرف، كيف تصل إلى روح اللوحة؟ كانت الكتابة تعبّر عن دهشة العين للصورة، للظل وللضوء، أما المساحات المتروكة فكانت الصمت، وكان لزاما أن أجد الكلمات التي تعبر حاجز صمت اللوحة، كان حامد يبحر في اللون بلوحاته، وصرت أبحر بالكلمات، لنتقاطع في لحظة نجاة لا توصف إلا بالشعر المكثف والومضات المدهشة.”
تميل الشاعرة إلى الشعر النثري كمساحة للتعبير حيث تقول إن الشعر النثري يسمح لها بممارسة حريتها بلا قيد أو قالب معين، ويسمح لها بأن تأخذ القصيدة إلى حيث تريد، إلى الدهشة، إلى عالم لا يحدّه شيء، ففيه لا تستند القصيدة إلى البحر، بل إلى الكون بأكمله، فتصبح كالموسيقى التي لا تُعزف بنوتة مكتوبة فتأسرك بارتجالاتها، هي ليست ضد القصيدة العمودية، بل لون مختلف لكتابة الشعر.
وترى محسن أن للمرأة لغة شعرية خاصة بها، فالمرأة حسبما ذكرت لا تكتب بصفتها أنثى فقط، بل بصفتها إنسانا صنعته التجربة، وتحمل بوجدانها وجسدها مشاعر مركبة وعميقة لا تشبه سواها، حيث إنها ليست مفردات أنثوية بالمعنى السطحي، بل غوص في التفاصيل الصغيرة، هي تكتب من زاوية نظر خاصة، من موقع تأملي لا يخلو من العاطفة والاحتجاج، وأن المرأة تكتب من موقع الوجود، لا من رغبة في التحدي، فهي تكتب بصوت أصيل.
وتوضح الشاعرة أن الدور الحقيقي الذي يجب أن يؤديه الشاعر في مجتمعه هو الكتابة فقط، ومن خلالها يعزز الحس الإنساني وسط هذه الفوضى وهذا الضجيج، يضفي الجمال على هذا الصخب الهائل من الدم والموت، لا يفرض شيئا على أحد، لكنه يفتح كوة في عتمة هذه الحياة، يكثف الأسئلة ويترك للقارئ مساحة للتفكير.
وفي الحديث عن علاقة القارئ العربي اليوم بالشعر ترى أن الشعر هنا كائن مسالم، أقرب إلى الفطرة السليمة، لكنه يتراجع كلما اشتدت وتيرة الحرب والموت، وكلما صُبغت الأرض باللون الأحمر، مشيرة إلى أن القارئ العربي يعيش حالة من الإحباط لكل ما يجري حوله، مدهوش ومرتبك ومشغول جدا بكل ما تمنحه له التكنولوجيا من تطور، وربما وضع قلبه على الصامت وأسكت صوت الشعر بداخله، لأنه صوت الضمير والإنسانية، صوت السلام والجمال، وكل هذه الأصوات غير مقبولة اليوم، فأصبح موقع الشعر اليوم متأرجحا كغريق يحاول النجاة.
وهنا حيث قادنا الحديث عن مدى إسهام وسائل التواصل الاجتماعي في تقريب الشعر من الناس، أو ربما في تشويهه، تبين الشاعرة أن وسائل التواصل الاجتماعي فتحت كل البوابات المغلقة في وجه النشر، وأعطت الشعراء فرصة كبيرة ليصنع كل واحد منهم منبره الخاص، ليكتب وينشر دون قيود ولا شروط، مما خلق جوا مختلفا ومنفتحا، كُسرت فيه الحواجز كثيرا، لكنها في الوقت ذاته حولته إلى مادة مبتذلة في الكثير من الأحيان، ومكّنت من لا موهبة لهم من اعتلاء المنصات، ليختلط الغث بالسمين، الأمر الذي جعل المشهد يبدو ضبابيا، ومزدحما، وفارغا، ولكن يكمن التحدي في أن تبقى القصيدة بعيدا عن صخب المزايدة أو الاستسهال.
وتذكر أن الحرية هي الموضوع الذي تريد مقاربته شعريا، لكنها كلما حاولت الكتابة عنها شعرت بأن القصيدة تُغلق أبوابها في وجهها، وحسب وصفها، كأنها في تحدٍّ ساخر، فتقول ربما تريد منها الحرية أن تقترب منها أكثر، تفهمها وتعيشها بصدق، تعرف ثمنها، وقدر الهالة العظيمة المحيطة بها، وتصف المشهد برؤية أخرى فتقول إنه ربما الحرية بعيدة رغم اقترابها منها، أو ربما هي سراب صعب الوصول إليه، فما أكثر القيود التي تحاصرنا، حيث تشعر بأنها لن تستطيع كتابتها كما تستحق، في تساؤل هل لأنها أكبر من القصيدة أم لأنها أثقل من المعنى؟
وعن الطموح والمستقبل تقول إنها تحلم بأن تكتب عملا شعريا بصريا يتجاوز الورق، يجمع بين الكلمة والمشهد والصوت، ربما يكون مسرحا شعريّا، أو قصيدة تُعرض لا تُقرأ، في تجربة حية، كاملة، تُحرّك المشاعر وتلامس أوتار القلب، في إشارة منها إلى حب العمل المشترك مع الفنون الأخرى، الذي يُثمر إبداعا حقيقيا مختلفا قد يُعيد للشعر مكانته، تحلم للقصيدة بحريتها التامة، لتخرج من الكتاب وترقص على المسرح، أو تتحول إلى مشهد سينمائي.
وتضيف أنها تطمح لتجربة كتابة الشعر للأطفال بلغة تحترم وعيهم، وتثري خيالهم، وتخلق لهم عالما سحريا مختلفا وجديدا.